الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي حَذْفِ الْفِعْلِ وَهُوَ إِمَّا احْفَظُوا أَيِ احْفَظُوهَا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ بِحُسْنِ الْمِلْكِيَّةِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْكُسْوَةِ وَالطَّعَامِ، أَوِ احْذَرُوا أَيِ احْذَرُوا تَضْيِيعَهَا، وَخَافُوا مَا رَتَّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ تَفْخِيمًا لِأَمْرِهِ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْأَمْرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمُ الْمَمَالِيكَ، وَإِنَّمَا قَرَنَهُ بِالصَّلَاةِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْقِيَامَ بِمِقْدَارِ حَاجَتِهِمْ مِنَ الْكُسْوَةِ وَالطَّعَامِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ مَلَكَهُمْ وُجُوبَ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا سَعَةَ فِي تَرْكِهَا، وَقَدْ ضَمَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَهَائِمَ الْمُسْتَمْلَكَةَ فِي هَذَا الْحُكْمِ إِلَى الْمَمَالِيكِ وَإِضَافَةُ الْمِلْكِ إِلَى الْيَمِينِ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الْيَدِ، وَالْأَكْسَابُ وَالْأَمْلَاكُ تُضَافُ إِلَى الْأَيْدِي لِتَصَرُّفِ الْمَالِكِ فِيهَا وَتَمَكُّنِهِ مِنْ تَحْصِيلِهَا بِالْيَدِ، وَإِضَافَتُهَا فِي الْيَمِينِ أَبْلَغُ وَأَنْفَذُ مِنْ إِضَافَتِهَا إِلَى الْيَدِ لِكَوْنِ الْيَمِينِ أَبْلَغَ فِي الْقُوَّةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَأَوْلَى بِتَنَاوُلِ مَا كَرُمَ وَطَابَ، وَأَرَى فِيهَا وَجْهًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَمَالِيكَ خُصُّوا بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَيْمَانِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِ الْإِنْسَانِ وَكَرَامَتِهِ، وَتَبْيِينًا لِفَضْلِهِ عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمِلْكِ، وَتَمْيِيزًا لَهُ بِلَفْظِ الْيَمِينِ عَنْ جَمِيعِ مَا احْتَوَتْهُ الْأَيْدِي وَاشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَمْلَاكُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ ضِيقُ الْمَكَانِ مِنْ تَوْصِيَتِهِ أُمَّتَهُ فِي آخِرِ عَهْدِهِ أَنْ يُقَدَّرَ احْذَرُوا كَقَوْلِهِمْ: أَهْلَكَ وَاللَّيْلَ وَرَأْسَكَ وَالسَّيْفَ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَنَابَ بِالصَّلَاةِ عَنْ جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ، إِذِ الصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَبِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ عَنْ جَمِيعِ مَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ مِلْكًا وَقَهْرًا، وَلِهَذَا خُصَّ الْيَمِينُ كَمَا فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَكُنَّا الْأَيْمَنِينَ إِذَا الْتَقَيْنَا ... وَكَانَ الْأَيْسَرِينَ بَنُو أَبِينَا
فَنَبَّهَ بِالصَّلَاةِ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ اللَّهِ، وَبِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ عَلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ مَا عَامٌّ فِي ذَوِي الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا خُصَّ بِذَوِي الْعِلْمِ يُرَادُ بِهِ الصِّفَةُ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ التَّعْظِيمَ وَالتَّحْقِيرَ، فَحَمْلُهُ عَلَى الْمَمَالِيكِ يَقْتَضِي تَحْقِيرَ شَأْنِهِمْ، وَكَوْنَهُمْ مُسَخَّرِينَ لِمَوَالِيهِمْ، وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِعُمُومِهِ، فَيَدْخُلُ الْمَمَالِيكُ فِيهِ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْقَاضِي عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ; لِأَنَّ الْإِجْبَارَ نَوْعُ قَضَاءٍ، وَالْقَضَاءُ يَعْتَمِدُ الْمَقْضِيَّ لَهُ، وَيَعْتَمِدُ أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْمَقْضِيِّ لَهُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ، وَيُؤْمَرُ بِهِ دِيَانَةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ آثِمًا مُعَاقَبًا بِحَبْسِهَا عَنِ الْبَيْعِ مَعَ عَدَمِ الْإِنْفَاقِ، وَفِي الْحَدِيثِ: " «امْرَأَةٌ دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ لَا هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ وَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا» ". وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُنَا: خُصُومَةُ الذِّمِّيِّ وَالدَّابَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْمُسْلِمِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ، يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: «وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ» ، وَنَهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: كَانَ يَنْهَى عَنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ» . (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ") .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute