للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَنِ الْحَقِّ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ أَيْ: خُرُوجُهُ مِنْ مَقَامِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ اسْتِعْدَادَهُ الَّذِي جُبِلَ عَلَيْهِ، أَوْ مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِ النَّفْسِ، أَوْ مَقَامًا مِنْ مَقَامَاتِ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ لِتَحْصِيلِ مِرَاضِيهِ، وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى تَوْحِيدِ الذَّاتِ، وَرَسُولِهِ بِاتِّبَاعِ أَعْمَالِهِ، وَاقْتِفَاءِ أَخْلَاقِهِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى طَلَبِ الِاسْتِقَامَةِ فِي تَوْحِيدِ الصِّفَاتِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَتُخْرِجُهُ الْعِنَايَةُ الْإِلَهِيَّةُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْحُدُوثِ وَالْفَنَاءِ إِلَى أَنْوَارِ الشُّهُودِ، وَالْبَقَاءِ، وَتَجْذِبُهُ مِنْ حَضِيضِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى ذُرْوَةِ الْعِنْدِيَّةِ، وَيَفْنَى فِي عَالَمِ اللَّاهُوتِ، وَيَبْقَى بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَرَجَعَ إِلَيْهِ الْأُنْسُ، وَنَزَلَ مَحَلَّةَ الْقُدُسِ بِدَارِ الْقَرَارِ فِي جِوَارِ الْمَلِكِ الْغَفَّارِ، وَأَشْرَقَتْ عَلَيْهِ سُبُحَاتُ الْوَجْهِ الْكَرِيمِ، وَحَلَّ بِقَلْبِهِ رُوحُ الرِّضَا الْعَمِيمِ، وَوَجَدَ فِيهَا الرُّوحَ الْمُحَمَّدِيَّ، وَأَحْبَابًا، وَعَرَفَ أَنَّ لَهُ مَثْوًى، وَمَآبًا. وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا أَيْ: لِتَحْصِيلِ شَهْوَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ، وَالْجَاهِ، أَوْ تَحْصِيلِ لَذَّةِ شَهْوَةِ الْفَرْجِ فَيَبْقَى مَهْجُورًا عَنِ الْحَقِّ فِي أَوْطَانِ الْغُرْبَةِ، وَدِيَارِ الظُّلْمَةِ لَهُ نَارُ الْفُرْقَةِ، وَالْقَطِيعَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، وَأَنْشَدَ بَعْضُ الْمُخْلِصِينَ لِبَعْضِ الْمُخْلِطِينَ:

يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ ... عَمَّا قَلِيلٍ سَتَثْوَى بَيْنَ أَمْوَاتِ

إِنَّ الْحِمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ ... فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ، وَسَاعَاتِ

لَا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا، وَزِينَتِهَا ... قَدْ حَانَ لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللُّبِّ أَنْ يَأْتِي

وَكُنْ حَرِيصًا عَلَى الْإِخْلَاصِ فِي عَمَلٍ ... فَإِنَّمَا الْعَمَلُ الزَّاكِي بِنِيَّاتٍ

قَدْ وَرَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ مَرْفُوعًا: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْحَفَظَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اكْتُبُوا لِعَبْدِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الْأَجْرِ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَحْفَظْ ذَلِكَ عَنْهُ، وَلَا هُوَ فِي صَحِيفَتِنَا فَيَقُولُ إِنَّهُ نَوَاهُ» ) . وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ الْعَلِيَّ، أَنَّ زُبَيْدَةَ رُؤِيَتْ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهَا: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكِ؟ فَقَالَتْ: غَفَرَ لِي، فَقِيلَ لَهَا: بِكَثْرَةِ عِمَارَتِكِ الْآبَارَ، وَالْبِرَكِ، وَالْمَصَانِعِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَإِنْفَاقِكِ فِيهَا؟ فَقَالَتْ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ذَهَبَ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى أَرْبَابِهِ، وَإِنَّمَا نَفَعَنَا مِنْهُ النِّيَّاتُ فَغَفَرَ لِي بِهَا، اللَّهُمَّ فَأَحْسِنْ نِيَّاتِنَا، وَلَا تُؤَاخِذْنَا بِنِيَّاتِنَا، وَاخْتِمْ بِالْخَيْرِ مَنِيَّاتِنَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَلَى رِوَايَتِهِ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَيْ: بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ لَا بِمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، لَكِنَّ اتِّفَاقَهَا عَلَيْهِ لَازِمُ ذَلِكَ لِاتِّفَاقِهَا عَلَى تَلَقِّي مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ الْأَرْبَعَةُ بَقِيَّةُ السِّتَّةِ. وَقِيلَ: لَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا مَنْ لَمْ يُخْرِجْهُ سِوَى مَالِكٍ، فَفِي الْجُمْلَةِ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ مُجْمَعٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَمِمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ مَاكُولَا، وَغَيْرُهُ مِنَ التَّكَلُّمِ فِيهِ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَمَا قِيلَ إِنَّهُ مُتَوَاتِرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا عُمَرُ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ عُمَرَ إِلَّا عَلْقَمَةُ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْ عَلْقَمَةَ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، وَلَمْ يَرْوِهِ عَنْهُ إِلَّا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، ثُمَّ تَوَاتَرَ عَنْهُ بِحَيْثُ رَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ إِنْسَانٍ أَكْثَرُهُمْ أَئِمَّةٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْحُفَّاظِ: إِنَّهُ رَوَاهُ عَنْهُ سَبْعُمِائَةِ إِنْسَانٍ مِنْ أَعْيَانِهِمْ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَسَعِيدٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُمَرَ تِسْعَةٌ غَيْرُ عَلْقَمَةَ، وَعَنْ عَلْقَمَةَ اثْنَانِ غَيْرُ التَّيْمِيِّ، وَعَنِ التَّيْمِيِّ خَمْسَةٌ غَيْرُ يَحْيَى، فَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخِرِهِ غَرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَوَّلِهِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَغَيْرِهِمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ جَمِيعَ مَا وَقَعَ مُسْنَدًا فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَوْ أَحَدِهِمَا مِنَ الْأَحَادِيثِ يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ الصِّحَّةُ، وَكَذَا الْعَمَلُ مَا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ نَحْوَ نَسْخٍ، أَوْ تَخْصِيصٍ، وَإِجْمَاعُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَقُبُولُهَا لِلْخَبَرِ الْغَيْرِ الْمُتَوَاتِرِ يُوجِبُ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ، أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ: أَهْلُ الصَّنْعَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ الْأَخْبَارَ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الصَّحِيحَانِ مَقْطُوعٌ بِصِحَّةِ أُصُولِهَا، وَمُتُونِهَا، وَلَا يَحْصُلُ الْخِلَافُ فِيهَا بِحَالٍ، وَإِنْ حَصَلَ اخْتِلَافٌ فَذَلِكَ اخْتِلَافٌ فِي طُرُقِهَا، وَرُوَاتِهَا، فَمَنْ خَالَفَ حُكْمُهُ خَبَرًا مِنْهُمَا

<<  <  ج: ص:  >  >>