وَنَحْوِهَا، وَفِي هَذَا كُلِّهِ مِنَ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ صَارَ بِذَلِكَ مُلْحَقًا بِالْأَمْوَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ، فَكَانَ الْعِتْقُ إِحْيَاءً لَهُ مَعْنًى، وَلِذَا كَانَ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - جَزَاؤُهُ - عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا كَانَ الْعِتْقُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ - الْإِعْتَاقَ مِنْ نَارِ الْجَحِيمِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ سَيِّدِ الْأَخْيَارِ، وَالْعِتْقُ وَالْعَتَاقُ لُغَةً عِبَارَتَانِ عَنِ الْقُوَّةِ، وَمِنْهُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ عَنْ مِلْكِ أَحَدٍ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَقِيلَ: لِلْقَدِيمِ عَتِيقٌ لِقُوَّةِ سَبْقِهِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الصِّدِّيقُ عَتِيقًا لِجَمَالِهِ، وَقِيلَ: لِقِدَمِهِ فِي الْخَيْرِ، وَقِيلَ: لِعِتْقِهِ مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ: لِشَرَفِهِ، فَإِنَّهُ قُوَّةٌ فِي الْحَسَبِ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ يُقَالُ لِلْكَرِيمِ بِمَعْنَى الْحَسِيبِ، وَقِيلَ: قَالَتْ أُمُّهُ لَمَّا وَضَعَتْهُ: هَذَا عَتِيقُكَ مِنَ الْمَوْتِ، وَكَانَ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمُهُ الْعَلَمُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ وَصْفِهِ لَهُ الْجَمَالَ أَوْ تَفَاؤُلًا بِالْحَسَبِ الْمُنِيفِ أَوْ بِعَدَمِ الْمَوْتِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعْهُودَاتِ تَرْجِعُ إِلَى زِيَادَةِ قُوَّةٍ فِي مَعَانِيهَا، وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ لُغَةً الْقُوَّةَ فَالْإِعْتَاقُ إِثْبَاتُ الْقُوَّةِ كَمَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ: الْعِتْقُ فِي الشَّرْعِ خُلُوصٌ حُكْمِيٌّ يَظْهَرُ فِي الْآدَمِيِّ عَمَّا بَيَّنَاهُ سَابِقًا بِالرِّقِّ، وَلَا يَخْفَى ثُبُوتُ الْقُدْرَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتِقُ حُرًّا بَالِغًا مَالِكًا، وَحُكْمُهُ زَوَالُ الرِّقِّ عَنْهُ، وَصِفَتُهُ فِي الِاخْتِيَارِيِّ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ غَالِبًا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً، كَمَا إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ يَذْهَبُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ يَرْتَدُّ، أَوْ يُخَافُ مِنْهُ السَّرِقَةُ، أَوْ قَطْعُ الطَّرِيقِ، وَيَنْفُذُ عِتْقُهُ مَعَ تَحْرِيمِهِ خِلَافًا لِلظَّاهِرِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْكَفَّارَةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَالْعِتْقِ لِزَيْدٍ، وَالْقُرْبَةُ مَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْكَافِرُ أَغْلَى ثَمَنًا مِنَ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يَكُونُ عِتْقُهُ أَفْضَلَ مِنْ عِتْقِ الْمُسْلِمِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (أَفْضَلُهَا أَغْلَاهَا) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ، فَبَعِيدٌ عَنِ الصَّوَابِ وَيَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِالْأَغْلَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ تَمْكِينٌ لِلْمُسْلِمِ مِنْ مَقَاصِدِهِ وَتَفْرِيغِهِ، وَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي اسْتِحْبَابِ عِتْقِ الْكَافِرِ تَحْصِيلُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا تَفْرِيغُهُ لِلتَّأَمُّلِ فَيُسْلِمُ فَهُوَ احْتِمَالٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٣٣٨٢ - (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً) : الرَّقَبَةُ عُضْوٌ خَاصٌّ مِمَّا يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الذَّاتُ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، فِي النِّهَايَةِ: الرَّقَبَةُ فِي الْأَصْلِ الْعِتْقُ، فَجُعِلَتْ كِنَايَةً عَنْ جَمِيعِ ذَاتِ الْإِنْسَانِ تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِبَعْضِهِ، فَإِذَا قَالَ: أَعْتَقَ رَقَبَةً فَكَأَنَّهُ قَالَ أَعْتَقَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، فَالْمَعْنَى مَنْ أَعْتَقَ نَفْسًا مَمْلُوكَةً (مُسْلِمَةً) : وَالتَّقْيِيدُ بِالْإِسْلَامِ لِيَكُونَ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ (أَعْتَقَ اللَّهُ) : ذَكَرَ أَعْتَقَ لِلْمُشَاكَلَةِ وَالْمَعْنَى أَنْجَاهُ (بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمُعْتِقِ (عُضْوًا) : أَيْ مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ، وَكَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَالسُّيُوطِيُّ أَيْ عُضْوًا كَائِنًا مِنَ الْمُعْتِقِ (مِنَ النَّارِ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَعْتَقَ الثَّانِي أَيْ أَنْقَذَهُ مِنْهَا (حَتَّى فَرْجَهُ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى (عُضْوًا) وَمَا بَعْدَ حَتَّى هُنَا أَدْوَنُ مِمَّا قَبْلَهُ كَقَوْلِهِمْ: حَجَّ النَّاسُ حَتَّى الْمُشَاةُ، أَيْ حَتَّى أَعْتَقَ اللَّهُ فَرْجَهُ (بِفَرْجِهِ) : أَيْ سَوَاءً كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى. قَالَ الْأَشْرَفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنَّمَا خَصَّ الْفَرْجَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّهُ مَحَلُّ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَعْدَ الشِّرْكِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْكِرَامُ، فَيُفِيدُ قُوَّةً. قَالَ الْمُظْهِرَ: ذِكْرُ الْفَرْجِ تَحْقِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْأَعْضَاءِ اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعَلُّقِ الْإِعْتَاقِ بِجَمِيعِ أَعْضَاءِ بَدَنِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: ( «أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا مُسْلِمًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِ مُحَرِّرِهِ مِنَ النَّارِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ جَاعِلٌ وِقَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا عَظْمًا مِنْ عِظَامِ مُحَرِّرِهَا مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُسْتَحَبُّ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُعْتَقُ خَصِيًّا كَيْلَا يَكُونَ نَاقِصَ الْعُضْوِ، لِيَكُونَ مُعْتِقُهُ قَدْ نَالَ الْمَوْعُودَ فِي عِتْقِ أَعْضَائِهِ كُلِّهَا مِنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute