إِلَى أَنَّهُ يَمِينٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ فِيهَا. وَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، لَكِنَّ الْقَائِلَ بِهِ آثِمٌ صَدَقَ فِيهِ أَوْ كَذَبَ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَتَّبَ عَلَيْهِ الْإِثْمَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْكَفَّارَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ كَافِرٌ يَكُونُ يَمِينًا، فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ، فَإِنَّهُ يَمِينٌ بِالنَّصِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: ١] ثُمَّ قَالَ {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: ٢] قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَجْهُ الْحَلِفِ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ وَهُوَ فِعْلُ كَذَا عَلَمًا عَلَى كُفْرِهِ، وَمُعْتَقَدُهُ حُرْمَتُهُ، فَقَدِ اعْتَقَدَهُ أَيِ الشَّرْطَ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِي فِعْلَ كَذَا، كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا. وَلَوْ قَالَ: دُخُولُ الدَّارِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ يَمِينًا، فَكَانَ تَعْلِيقُ الْكُفْرِ وَنَحْوِهِ عَلَى فِعْلٍ مُبَاحٍ يَمِينًا إِذَا عَرَفْتَ هَذَا، فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ فَهُوَ يَمِينٌ كَأَنْ قَالَ: إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ قَدْ فَعَلَهُ فَهُوَ يَمِينٌ غَمُوسٌ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا إِلَّا التَّوْبَةُ، وَهَلْ يَكْفُرُ حَتَّى تَكُونَ التَّوْبَةُ اللَّازِمَةُ عَلَيْهِ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ وَتَجْدِيدَ الْإِسْلَامِ؟ قِيلَ: نَعَمْ ; لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَهُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ ابْتِدَاءً هُوَ كَافِرٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَمِينٌ فِيهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ غَمُوسًا لَا يَكْفُرْ، وَإِنْ كَانَ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ يَكْفُرُ فَيَكْفُرْ فِيهَا بِفِعْلِهِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْكُفْرِ حَيْثُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي عَلَّقَ عَلَيْهِ كُفْرَهُ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَكْفُرُ إِذَا فَعَلَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ مِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ» ". فَهَذَا يُتَرَاءَى أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَعْتَقِدَ يَمِينًا أَوْ كُفْرًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُخْرِجَ مُخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يَحْلِفُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ أَنْ يَكُونَ أَهْلَ الْجَهْلِ وَالشَّرِّ، لَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا لُزُومَ الْكُفْرِ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ، فَإِنْ تَمَّ هَذَا فَالْحَدِيثُ شَاهِدٌ لِمَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِكُفْرِهِ. (" وَلَيْسَ عَلَى ابْنِ آدَمَ ") : أَيْ لَا يَلْزَمُهُ (" نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ") : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَأَنْ يَقُولَ إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَفُلَانٌ حُرٌّ وَهُوَ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ أَوِ التَّضَحِّيَ بِشَاةِ غَيْرِهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنْ دَخَلَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ. أَيْ: لَا صِحَّةَ لَهُ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ. قُلْتُ: رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الطَّلَاقِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا نَذْرَ لِابْنِ آدَمَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا طَلَاقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ أَحْسَنُ شَيْءٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ. (" «وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ» ") : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: عُوقِبَ بِمِثْلِهِ أَوْ بِهِ حَقِيقَةً (" يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ ") أَيْ: لَعْنُهُ (" كَقَتْلِهِ ") : أَيْ فِي أَصْلِ الْإِثْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَيْ فِي التَّحْرِيمِ أَوْ فِي الْعِقَابِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ أَيْ فَلَعْنُهُ كَقَتْلِهِ، وَكَذَا الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (" وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ ") : أَيْ قَذْفُهُ (" كَقَتْلِهِ ") : لِأَنَّ الرَّمْيَ بِالْكُفْرِ مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ، فَكَانَ الرَّمْيُ بِهِ كَالْقَتْلِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجْهُ التَّشْبِيهِ هُنَا أَظْهَرُ ; لِأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَى الْكُفْرِ الْمُوجِبُ لِلْقَتْلِ، فَالْقَاذِفُ بِالْكُفْرِ تَسَبَّبَ إِلَيْهِ وَالْمُتَسَبِّبُ إِلَى الشَّيْءِ كَفَاعِلِهِ، وَالْقَذْفُ فِي الْأَصْلِ الرَّمْيُ، ثُمَّ شَاعَ عُرْفًا فِي الرَّمْيِ بِالزِّنَا، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِكُلِّ مَا يُعَابُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَحِيقُ بِهِ ضَرَرُهُ، (" وَمَنِ ادَّعَى ") : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيْ أَظْهَرَ (" دَعْوَى ") : بِغَيْرِ تَنْوِينٍ (" كَاذِبَةً ") : بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِدَعْوَى، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ عَلَى الْإِضَافَةِ (" لِيَتَكَثَّرَ بِهَا ") : مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ لِيَسْتَكْثِرَ مِنْ بَابِ الِاسْتِفْعَالِ، وَاللَّامُ لِلْعِلَّةِ. وَفِي نُسْخَةٍ يَسْتَكْثِرُ بِحَذْفِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَالْمَعْنَى لِيُحَصِّلَ بِتِلْكَ الدَّعْوَى مَالًا كَثِيرًا. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ قَيْدٌ لِلدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: مَفْهُومُهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْغَرَضُ اسْتِكْثَارَ الْمَالِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ هَذَا الْحُكْمُ قُلْتُ لِلْقَيْدِ فَائِدَةٌ سِوَى الْمَفْهُومِ وَهُوَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute