للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حَتَّى يَفْعَلَ لَكَانَ فِي ذَلِكَ إِبْطَالُ حُكْمِهِ وَإِسْقَاطُ لُزُومِ الْوَفَاءِ بِهِ، إِذْ صَارَ مَعْصِيَةً، وَإِنَّمَا وَجْهُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجْلِبُ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ نَفْعًا وَلَا يَصْرِفُ عَنْهُمْ ضَرًّا، وَلَا يَرُدُّ شَيْئًا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِ: " فَلَا تَنْذُرُوا ". عَلَى أَنَّكُمْ تُدْرِكُونَ بِالنَّذْرِ شَيْئًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ لَكُمْ، أَوْ تَصْرِفُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ شَيْئًا جَرَى الْقَضَاءُ بِهِ عَلَيْكُمْ، إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَاخْرُجُوا عَنْهُ بِالْوَفَاءِ، فَإِنَّ الَّذِي نَذَرْتُمُوهُ لَازِمٌ لَكُمْ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: تَحْرِيرُهُ أَنَّهُ عَلَّلَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ، وَنَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ النَّذْرُ الْمُقَيَّدُ الَّذِي يُعْتَقَدُ أَنَّهُ يُغْنِي عَنِ الْقَدَرِ بِنَفْسِهِ، كَمَا زَعَمُوا، وَكَمَا نَرَى فِي عَهْدِنَا جَمَاعَةً يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ لَمَّا شَاهَدُوا مِنْ غَالِبِ الْأَحْوَالِ حُصُولَ الْمَطَالِبِ بِالنَّذْرِ، وَأَمَّا إِذَا نَذَرَ وَاعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَهِّلُ الْأُمُورَ، وَهُوَ الضَّارُّ وَالنَّافِعُ. وَالنُّذُورُ كَالذَّرَائِعِ وَالْوَسَائِلِ، فَيَكُونُ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ طَاعَةً، وَلَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، كَيْفَ وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ الْخِيَرَةَ مِنْ عِبَادِهِ بِقَوْلِهِ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: ٧] وَ {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: ٣٥] قُلْتُ: وَكَذَا قَوْلُهُ: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: ٢٦] وَفِيهِ أَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّ النَّذْرَ الْمُقَيَّدَ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ مَعْصِيَةً لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْقَيْدُ، أَعْنِي الِاعْتِقَادَ الْفَاسِدَ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ يُغْنِي عَنِ الْقَدَرِ. قَالَ: وَأَمَّا مَعْنَى " فَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ " فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْبَذْلَ وَالْإِنْفَاقَ، فَمَنْ سَمَحَتْ أَرْيَحِيَّتُهُ فَذَلِكَ، وَإِلَّا فَشَرْعُ النُّذُورِ لِيُسْتَخْرَجَ بِهِ مَالُ الْبَخِيلِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنِ النَّذْرِ كَوْنَ النَّاذِرِ يَصِيرُ مُلْتَزِمًا لَهُ، فَيَأْتِي بِهِ تَكَلُّفًا بِغَيْرِ نَشَاطٍ، قُلْتُ: وَهُوَ مُشَاهَدٌ كَثِيرًا فِيمَنْ يَنْذُرُ صِيَامَ الدَّهْرِ. أَوِ الْبِيضَ، أَوْ صَلَاةَ الضُّحَى وَغَيْرَهَا، أَوْ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ كُلَّ يَوْمٍ وَنَحْوَهُ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ كَوْنَهُ يَأْتِي بِالْقُرْبَةِ الَّتِي الْتَزَمَهَا فِي نَذْرِهِ عَلَى صُورَةِ الْمُعَاوَضَةِ لِلْأَمْرِ الَّذِي طَلَبَهُ، فَيَنْقُصُ أَجْرَهُ، وَشَأْنُ الْعِبَادَةِ أَنْ تَكُونَ مُتَمَحِّضَةً لِلَّهِ تَعَالَى اهـ. وَهُوَ تَوْضِيحٌ وَبَيَانٌ لِمَا فِي كَلَامِ الْقَاضِي مِمَّا مَضَى. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِكَوْنِهِ قَدْ يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّ النَّذْرَ قَدْ يَرُدُّ الْقَدَرَ، وَيَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمُقَدَّرِ، فَنَهَى عَنْهُ خَوْفًا مِنْ جَاهِلٍ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ اهـ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ النَّذْرِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَا يَنْشَأُ عَنْهُ مِنَ الِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ كَمَا سَبَقَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>