تَابِعًا، وَوَصْفُ الْعِلْمِ بِابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ إِمَّا لِلتَّفْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ فَإِنَّ بَعْضًا مِنَ الْعُلُومِ مِمَّا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ كَمَا وَرَدَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» ، وَإِمَّا لِلْمَدْحِ وَالْوَعِيدِ مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ، وَسَمِعْتُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الزَّاهِدِينَ يَقُولُ: مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِالْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَطْلُبَهَا بِغَيْرِهَا مِنَ الْعُلُومِ، فَهُوَ كَمَنْ جَرَّ جِيفَةً بِآلَةٍ مِنْ آلَاتِ اللَّهْوِ، وَذَلِكَ كَمَنْ جَرَّهَا بِأَوْرَاقِ تِلْكَ الْعُلُومِ اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ رَأَى شَخْصًا يَلْعَبُ فَوْقَ الْحِبَالِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا لِأَنَّهُ يَأْكُلُ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا وَأَصْحَابُنَا يَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ اهـ. لَكِنْ قَالُوا: فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَأْخُذُ الدُّنْيَا لِيَتَفَرَّغَ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَبَيْنَ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِيَأْخُذَ الدُّنْيَا فَتَأَمَّلْ. فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الزَّلَلِ ثُمَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَعَمِّ الْأَوْصَافِ، أَيْ: لَا يَتَعَلَّمُهُ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مُتَمَتِّعَاتِ الدُّنْيَا وَإِنْ قَلَّ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَصْدَهَا هَذَا وَلَوْ مَعَ قَصْدِ الْآخِرَةِ مُوجِبٌ لِلْإِثْمِ، فَوَجْهُ التَّقْيِيدِ تَرَتَّبَ الْعِقَابُ الْآتِي عَلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الدُّنْيَا لَا يَقْصِدُ مَعَهَا الْآخِرَةَ (لَمْ يَجِدْ) : حِينَ يَجِدُ عُلَمَاءُ الدِّينِ مِنْ مَكَانٍ بِعِيدٍ (عَرْفَ الْجَنَّةِ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ رِيحَهَا الطَّيِّبَةَ الْمَعْرُوفَةَ بِأَنْ تُوجَدَ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يَعْنِي) : هَذَا تَفْسِيرُ الرَّاوِي (رِيحُهَا) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَدْ حُمِلَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي تَحْرِيمِ الْجَنَّةِ عَلَى الْمُخْتَصِّ بِهَذَا الْوَعِيدِ كَقَوْلِكَ: مَا شَمَمْتُ قُتَارَ قَدْرِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّبَرُّؤِ عَنْ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ أَيْ: مَا شَمَمْتُ رَائِحَتَهَا فَكَيْفَ بِالتَّنَاوُلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُخْتَصَّ بِهَذَا الْوَعِيدِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ عُرِفَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، فَتَأْوِيلُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ تَهْدِيدًا وَزَجْرًا عَنْ طَلَبِ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَأَيْضًا يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ مَوْصُوفٌ، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ يُحْشَرُ النَّاسُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وِجْدَانِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَطْ عَدَمُ وِجْدَانِهَا مُطْلَقًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْآمِنِينَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ إِذَا وَرَدُوا الْقِيَامَةَ يُمَدُّونَ بِرَائِحَةِ الْجَنَّةِ تَقْوِيَةً لِقُلُوبِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ، وَتَسْلِيَةً لِهُمُومِهِمْ وَأَشْجَانِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ حَالِهِمْ فِي الْمَعْرِفَةِ وَإِيقَانِهِمْ، وَمَنْ تَعَلَّمَ لِلْأَغْرَاضِ الْفَانِيَةِ وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَتَعَلَّمَهُ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ يَكُونُ كَمَنْ حَدَثَ مَرَضٌ فِي دِمَاغِهِ يَمْنَعُهُ عَنْ إِدْرَاكِ الرَّوَائِحِ فَلَا يَجِدُ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ الْأَغْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ بِالْقُوَى الْإِيمَانِيَّةِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا الْوَعِيدُ مُطْلَقٌ إِنِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّ تَحْرِيمَ طَلَبِ الْعِلْمِ بِهَذَا الْقَصْدِ فَقَطْ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَمَفْهُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ أَخْلَصَ قَصْدَهُ فَتَعَلَّمَ لِلَّهِ لَا يَضُرُّهُ حُصُولُ الدُّنْيَا لَهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهَا بِتَعَلُّمِهِ، بَلْ مِنْ شَأْنِ الْإِخْلَاصِ بِالْعِلْمِ أَنْ تَأْتِيَ الدُّنْيَا لِصَاحِبِهِ رَاغِمَةً، كَمَا وَرَدَ: " «مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَتَأْتِيهِ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» ": (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» ".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute