١ - كِتَابُ الْإِيمَانِ
" الْفَصْلُ الْأَوَّلُ "
٢ - «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخْذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: " الْإِسْلَامُ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ". قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ. قَالَ: " أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ قَالَ: " مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ " قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا. قَالَ: " أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ. قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ لِي: " يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الْكِتَابُ إِمَّا مَأْخُوذٌ مِنَ الْكُتُبِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، أَوِ الْكِتَابَةِ، وَالْمَعْنَى هَذَا مَجْمُوعٌ، أَوْ مَكْتُوبٌ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا عَنْوَنَ بِهِ مَعَ ذِكْرِهِ الْإِسْلَامَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الشَّرْعِ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ مِنَ الْفَرْقِ يَكُونُ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الْفَصْلِ، وَقَدَّمَهُ لِزِيَادَةِ شَرَفِهِ فِي الْفَضْلِ، وَلِكَوْنِهِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الَّذِي مَعَهُ أَمْنٌ، وَطُمَأْنِينَةٌ لُغَةً، وَفِي الشَّرْعِ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ مِمَّا جَاءَ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، فَكَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجْعَلُ بِهِ نَفْسَهُ آمِنَةً مِنَ الْعَذَابِ فِي الدَّارَيْنِ، أَوْ مِنَ التَّكْذِيبِ، وَالْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ إِفْعَالٌ مِنَ الْأَمْنِ يُقَالُ: أَمِنْتُ وَآمَنْتُ غَيْرِي، ثُمَّ يُقَالُ آمَنَهُ إِذَا صَدَّقَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَى أَمِنْتُ صِرْتُ ذَا أَمْنٍ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَيُعَدَّى بِاللَّامِ نَحْوَ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: ١٧] وَقَالَ فِرْعَوْنُ: {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: ٧١] وَقَدْ يُضَمَّنُ مَعْنَى اعْتَرَفَ فَيُعَدَّى بِالْبَاءِ نَحْوَ: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: ٣] وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى أَقْوَالٍ أَوَّلُهَا: عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَالْأَشْعَرِيُّ، وَالْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِالضَّرُورَةِ تَفْصِيلًا فِي الْأُمُورِ التَّفْصِيلِيَّةِ، وَإِجْمَالًا فِي الْإِجْمَالِيَّةِ تَصْدِيقًا جَازِمًا، وَلَوْ لِغَيْرِ دَلِيلٍ حَتَّى يَدْخُلَ إِيمَانُ الْمُقَلِّدِ، فَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ عَدَمِ صِحَّتِهِ رُدَّ بِأَنَّهُ كَذِبٌ عَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَرْكَانَ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَالنُّبُوَّةِ، وَنَحْوَ الصَّلَاةِ فَإِنْ جَوَّزَ وُرُودَ شُبْهَةٍ تُفْسِدُ اعْتِقَادَهُ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ لَكِنَّهُ فَاسِقٌ بِتَرْكِهِ النَّظَرَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْأَكْثَرِينَ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبِلَ الْإِيمَانَ مِنْ غَيْرِ تَفَحُّصٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، لَكِنْ فِي كَوْنِهِ فَاسِقًا بِتَرْكِهِ النَّظَرَ نَظَرٌ ظَاهِرٌ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ فُهِمَ مِنْ قَيْدِ مُجَرَّدِ التَّصْدِيقِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعَهُ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ، وَمِنَ الضَّرُورَةِ أَنَّ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَكَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا بِذَاتِهِ، أَوْ بِالْعِلْمِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، أَوْ مَرْئِيًّا لَا يَكْفُرُ مُنْكِرُهُ إِجْمَاعًا، وَمِنَ الْجَزْمِ أَنَّ التَّصْدِيقَ الظَّنِّيَّ لَا يَكْفِي فِي حُصُولِ مُسَمَّى الْإِيمَانِ.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ مَعًا فَقِيلَ: الْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ لَا لِصِحَّةِ الْإِيمَانِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ، وَرَبِّهِ. قَالَ حَافِظُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ: وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ، وَالْأَشْعَرِيُّ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَقِيلَ: هُوَ رُكْنٌ لَكِنَّهُ غَيْرُ أَصْلِيٍّ بَلْ زَائِدٌ، وَمِنْ ثَمَّ يَسْقُطُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَالْعَجْزِ، وَلِهَذَا مَنْ صَدَّقَ وَمَاتَ فَجْأَةً عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ إِجْمَاعًا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ رُكْنٌ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَشَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: ٥٦] الْآيَةَ. حَيْثُ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَطَالِبِ. وَبِهَذَا يَلْتَئِمُ الْقَوْلَانِ. وَالْخِلَافَانِ لَفْظِيَّانِ، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْغَزَالِيِّ مِنْ أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ النُّطْقِ كَالْمَعَاصِي الَّتِي تُجَامِعُ الْإِيمَانَ، فَهُوَ بِظَاهِرِهِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَيُحْمَلُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِقْرَارَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ لَا شَرْطًا، وَلَا شَطْرًا. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَاللِّسَانِ مَعَ سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَنُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَعَنِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْخَوَارِجِ، لَكِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ، وَالْكُفْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ مُؤْمِنٌ، وَلَا كَافِرٌ، بَلْ يُقَالُ لَهُ فَاسِقٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، وَالْخَوَارِجُ عَلَى أَنَّهُ كَافِرٌ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَاسِقٌ دَاخِلٌ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] قَالُوا: وَلَا تَظْهَرُ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ قَوْلِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَبَيْنَ سَائِرِ أَهْلِ السُّنَّةِ لِأَنَّ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابَ الزَّوَاجِرِ مِنْ كَمَالِ الْإِيْمَانِ اتِّفَاقًا لَا مِنْ مَاهِيَّتِهِ فَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي نُقْصَانِ الْإِيمَانِ، وَزِيَادَتِهِ، وَكَذَا اقْتِرَانُ الْإِيمَانِ بِالْمَشِيئَةِ، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ مَخْلُوقٌ، أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَذَا التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْمَلَكِ، وَالْبَشَرِ، وَمَحَلُّ بَسْطِ هَذَا الْمَرَامِ كُتُبُ الْكَلَامِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute