رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: " صَنَعَ لَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ طَعَامًا فَدَعَانَا وَسَقَانَا مِنَ الْخَمْرِ فَأَخَذَتِ الْخَمْرُ مِنَّا، وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّمُونِي فَقَرَأْتُ: " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَنَحْنُ نَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ". قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣] قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَوِ ارْتَدَّ السَّكْرَانُ لَا تَبِينُ امْرَأَتُهُ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ أَوِ الِاسْتِخْفَافِ وَلِذَا حُكِمَ بِكُفْرِ الْهَازِلِ مَعَ اعْتِقَادِهِ لِمَا يَقُولُ وَلَا اعْتِقَادَ لِلسَّكْرَانِ وَلَا اسْتِخْفَافَ لِأَنَّهُمَا فَرْعُ قِيَامِ الْإِدْرَاكِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قِرَاءَةَ عَلِيٍّ إِنَّمَا وَقَعَتْ سَهْوًا لَا قَصْدًا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسَائِلَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْبَابِ أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ إِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رَائِحَتِهَا لَمْ يُحَدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَكَذَا إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ بَعْدَمَا ذَهَبَ رِيحُهَا أَوْ ذَهَبَ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَمَّا التَّقَادُمُ فَيَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ، وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّ غَيْبُوبَةَ الْعَقْلِ أَوْ غَلَبَةَ الطَّرَبِ وَالتَّرَحِ تُخَفِّفُ الْأَلَمَ، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الْجَائِزِ عَنْ أَبِي مَاجِدٍ الْحَنَفِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ بِابْنِ أَخٍ لَهُ سَكْرَانَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: تَرْتِرُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ فَفَعَلُوا فَدَفَعَهُ إِلَى السِّجْنِ ثُمَّ دَعَا بِهِ مِنَ الْغَدِ، فَدَعَا بِسَوْطٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُقَّتْ ثَمَرَتُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى صَارَتْ دِرَّةً، ثُمَّ قَالَ لِلْجَلَّادِ: اجْلِدْ وَارْفَعْ يَدَكَ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ ابْنُ رَاهَوَيْهِ أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَائِزُ وَالتَّرْتَرَةُ وَالْمَزْمَزَةُ التَّحْرِيكُ بِعُنْفٍ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ ; لِأَنَّ التَّحْرِيكَ يُظْهِرُ الرَّائِحَةَ مِنَ الْمَعِدَةِ الَّتِي كَانَتْ خَفِيَتْ وَكَانَ ذَلِكَ مَذْهَبَهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ: مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَحْسَنْتَ. فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ وَجَدَ مِنْهُ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَقَالَ: أَتَشْرَبُ الْخَمْرَ وَتُكَذِّبُ بِالْكِتَابِ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ» ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ وَفِي لَفْظٍ رِيحَ شَرَابٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدَّهُ عِنْدَ وُجُودِ الرِّيحِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ اشْتِرَاطَ الرَّائِحَةِ مَعَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ هُوَ مَذْهَبٌ لِبَعْضٍ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَالْأَصَحُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَفْيُهُ وَمَا ذَكَرْنَا عَنْ عُمَرَ يُعَارِضُ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ عَزَّرَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ الرَّائِحَةَ وَيَتَرَجَّحُ لِأَنَّهُ أَصَحُّ وَإِنْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَلَدَ مَنْ وَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ الْحَدَّ تَامًّا وَقَدِ اسْتَبْعَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْحُدُودِ إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا مُقِرًّا أَنْ يُرَدَّ وَيُدْرَأَ مَا اسْتُطِيعَ فَكَيْفَ يَأْمُرُ ابْنُ مَسْعُودٍ بِالْمَزْمَزَةِ عِنْدَ عَدَمُ الرَّائِحَةُ لِيَظْهَرَ الرِّيحُ فَيَحُدَّهُ.
فَإِنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُولَعًا بِالشَّرَابِ مُدْمِنًا فَاسْتَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ، قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وُجِدَ بِهِ رِيحُ الْخَمْرِ ; لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُحْتَمَلَةٌ فَلَا تُثْبِتُ مَعَ الِاحْتِمَالِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ قَالَ: الشَّاعِرُ:
يَقُولُونَ لِي أَنْكَهْ شَرِبْتَ مُدَامَةً ... فَقُلْتُ لَا بَلْ أَكَلْتُ السَّفَرْجَلَا
وَأَنْكَهْ بِوَزْنِ أَمْنَعُ وَنَكَهَ مِنْ بَابِهِ أَيْ أَظْهَرَ رَائِحَةَ فَمِهِ وَقَالَ الْآخَرُ:
سَفَرْجَلَةٌ تَحْكِي ثَدْيَ الْفَرَاهِدِ ... لَهَا عُرْفٌ ذِي فِسْقٍ وَصُفْرَةِ زَاهِدِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute