شَرِبَ نَصِيفَةً مِنْ خَمْرٍ فَاجْلِدُوهُ ثَمَانِينَ» . وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْيِينِ وَكَانَ الرَّأْيُ لِلْإِمَامِ فِي التَّبْيِينِ مِمَّا يُقَارِبُ الْأَرْبَعِينَ إِلَى تَمَامِ الثَّمَانِينَ عَلَى مَا سَيَأْتِي بُرْهَانُهُ وَتَمَامُ بَيَانِهِ (وَجَلَدَ) لَعَلَّ فِيهِ تَجْرِيدًا أَيْ ضَرَبَ (أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ) أَيْ جَلْدَةً أَوْ ضَرْبَةً فِي شَرْحِ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِي شَارِبِ الْخَمْرِ فَذَهَبَ قَوْمٌ وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْحَدَّ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً وَقَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ ثَمَانُونَ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَ: أَرَى أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ ; فَإِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، أَوْ كَمَا قَالَ، فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ قَالَ: وَمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ كَانَ تَعْزِيرًا وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي الْعُقُوبَةِ إِذَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي رَجُلٍ شَرِبَ الْخَمْرَ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، قَالَ عَلَيٌّ لِلْحَسَنِ: أَقِمْ. فَقَالَ الْحَسَنُ: وَلِّ حَارَّهَا مَنْ تَوَلَّى قَارَّهَا فَقَالَ عَلِيٌّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ: أَقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ، قَالَ: فَأَخَذَ السَّوْطَ فَجَلَدَهُ وَعَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَعُدُّ فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ قَالَ: حَسْبُكَ جَلَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ وَعُمَرُ ثَمَانِينَ وَكُلٌّ سُنَّةٌ، وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيَّ. وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ حَسْبُكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْحُدُودِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ تَعْزِيرٌ وَلَوْ كَانَ حَدًّا لَمَا كَانَ لِأَحَدٍ فِيهِ الْخِيَارُ، وَقَوْلُهُ وَلِّ حَارَّهَا أَيْ وَلِّ الْعُقُوبَةَ وَالضَّرْبَ مَنْ تَوَلَّى الْعَمَلَ وَالنَّفْعَ وَالْقَارُّ الْبَارِدُ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَلِّ شَدِيدَهَا مَنْ تَوَلَّى هَيِّنَهَا، قَالَ الطِّيبِيُّ: الضَّمِيرَانِ الْمُؤَنَّثَانِ رَاجِعَانِ إِلَى الْخِلَافَةِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَعْنِي وَلِّ مَشَاقَّ الْخِلَافَةِ مَنْ تَوَلَّى مَلَاذَّهَا فَإِنَّ الْحَرَارَةَ وَالْبُرُودَةَ مَثَلَانِ لِلْمَشَقَّةِ وَاللَّذَّةِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَكُلٌّ سُنَّةٌ أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقَضِيَّتَيْنِ مَبْنَاهَا عَلَى السُّنَّةِ فَسَمَّى كِلْتَيْهِمَا سُنَّةً لِأَنَّهُمَا أُخِذَتَا مِنَ السُّنَّةِ، وَيُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: قَوْلُ عَلِيٍّ كُلٌّ سُنَّةٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ مُعَظِّمًا لِآثَارِ عُمَرَ وَأَنَّ حُكْمَهُ وَقَوْلَهُ سُنَّةٌ وَأَمْرَهُ حَقٌّ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ بِخِلَافِ مَا يَفْتَرِي الشِّيعَةُ عَلَيْهِ اه. وَفِيهِ أَنَّ عُمَرَ مَا اخْتَارَ الثَّمَانِينَ إِلَّا بِمَشُورَةِ عَلِيٍّ وَإِشَارَتِهِ وَكَانَ هَذَا عِنْدَ عُتُوِّ أَهِلِ الشُّرْبِ بِزِيَادَةِ الْفِسْقِ مِنَ الْهَذَيَانِ وَالْقَذْفِ وَالضَّرْبِ وَنَحْوِهَا فِي حَالِ سُكْرِهِمْ، فَرَأَوْا تَضْعِيفَ الْحَدِّ سِيَاسَةً مُنَاسِبَةً لِحَالِهِمْ مِنْ سُوءِ فِعَالِهِمْ وَقُبْحِ مَقَالِهِمْ وَاسْتَمَرَّ الْحُكْمُ عَلَى ذَلِكَ، فَفِي الْهِدَايَةِ: وَحَدُّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ أَيْ مِنْ غَيْرِهَا ثَمَانُونَ سَوْطًا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعُونَ إِلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ رَأَى أَنْ يَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ عَلَى تَعْيِينِ الثَّمَانِينَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute