٣٧٦١ - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخِيهِ ; فَلَا يَأْخُذَنَّهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
٣٧٦١ - (وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ) : أَيْ: تَرْفَعُونَ الْمُخَاصَمَةَ إِلَيَّ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَبِهَا ابْتَدَأَ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ السَّهْوَ وَالنِّسْيَانَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّ الْوَضْعَ الْبَشَرِيَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُدْرَكَ مِنَ الْأُمُورِ إِلَّا ظَوَاهِرُهَا، فَإِنَّهُ خَلَقَ خَلْقًا لَا يَسْلَمُ مِنْ قَضَايَا تَحْجُبُهُ عَنْ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَسْمَعَ الشَّيْءَ فَيَسْبِقُ إِلَى وَهْمِهِ أَنَّهُ صِدْقٌ وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، يَعْنِي أَنِّي إِنْ تَرَكْتُ عَلَى مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَايَا الْبَشَرِيَّةِ، وَلَمْ أُؤَيَّدْ بِالْوَحْيِ السَّمَاوِيِّ طَرَأَ عَلَيَّ مِنْهَا مَا يَطْرَأُ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ، فَإِنْ قِيلَ: أَوَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَصُونًا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَمَعْصُومًا عَلَى سَائِرِ أَحْوَالِهِ؟ قُلْنَا: إِنَّ الْعِصْمَةَ تَتَحَقَّقُ فِيمَا يُعَدُّ عَلَيْهِ ذَنْبًا وَيَقْصِدُهُ قَصْدًا، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي جُمْلَتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُكَلِّفْهُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ إِلَّا مَا كَلَّفَ غَيْرَهُ، وَهُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الْإِصَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَرْوِيهِ أُمُّ سَلَمَةَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهُوَ فِي حِسَانِ هَذَا الْبَابِ: " «أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ» ") (وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ: زِيدَ لَفْظَةُ (أَنْ) فِي خَبَرِ لَعَلَّ تَشْبِيهًا لَهُ بِعَسَى، وَقَوْلُهُ: (أَلْحَنَ) أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنْ لَحِنَ كَفَرِحَ إِذَا فَطِنَ بِمَا لَا يَفْطِنُ بِهِ غَيْرُهُ ; أَيْ: أَفْصَحَ وَأَفْطَنَ (بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ) : فَيُزَيِّنُ كَلَامَهُ بِحَيْثُ أَظُنُّهُ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ (فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ) : قَالَ الرَّاغِبُ: اللَّحْنُ صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ سُنَنِهِ الْجَارِي عَلَيْهِ إِمَّا بِإِزَالَةِ الْعَرَبِ، أَوِ التَّصْحِيفِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا، وَإِمَّا بِإِزَالَتِهِ عَنِ التَّصْرِيحِ وَصَرْفِهِ بِمَعْنَاهُ إِلَى تَعْرِيضٍ وَفَحْوَى، وَهُوَ مَحْمُودٌ مِنْ حَيْثُ الْبَلَاغَةِ، وَإِيَّاهُ قَصَدَ الشَّارِعُ بِقَوْلِهِ: وَخَيْرُ الْأَحَادِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: ٣٠] وَمِنْهُ قِيلَ لِلَّفْظِ لَمَّا يَقْتَضِي فَحْوَى الْكَلَامِ: لَحْنٌ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ. " أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ " ; أَيْ: أَلْسَنَ وَأَفْصَحَ وَأَبْيَنَ كَلَامًا، وَأَقْدَرَ عَلَى الْحُجَّةِ (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ) : أَيْ: مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ (فَلَا يَأْخُذَنَّهُ) : أَيْ: إِذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِخِلَافِهِ (فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ) : أَيْ: أُعَيِّنُ لَهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْأَمْرِ (قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْخَطَأِ فِي الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْحَالَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَأَنَّ الْبَشَرَ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ وَبَوَاطِنِ الْأُمُورِ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُطْلِعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِ الْأَحْكَامِ مَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، فَيَحْكُمُ بِالْبَيِّنَةِ، أَوِ الْيَمِينِ مَعَ إِمْكَانِ خِلَافِ الظَّاهِرِ، وَهَذَا نَحْوَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» ) إِلَى قَوْلِهِ: " وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ". وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَأَطْلَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَاطِنِ أَمْرِ الْخَصْمَيْنِ، فَحَكَمَ بِيَقِينِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى شَهَادَةٍ، أَوْ يَمِينٍ، وَلَكِنْ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِ وَالْاقْتِدَاءِ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ مِنْ عَدَمِ الْإِطْلَاعِ عَلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ، لِيَكُونَ لِلْأُمَّةِ أُسْوَةٌ بِهِ فِي ذَلِكَ وَتَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ مِنَ الِانْقِيَادِ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى الْبَاطِنِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَقَعَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُكْمٌ فِي الظَّاهِرِ مُخَالِفٌ لِلْبَاطِنِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لَا يُقِرُّ عَلَى خَطَأٍ فِي الْأَحْكَامِ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَقَاعِدَةِ الْأُصُولِ ; لِأَنَّ مُرَادَهُمْ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ خَطَأٌ فِيهِ خِلَافٌ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى جَوَازِهِ؟ وَأَمَّا الَّذِي فِي الْحَدِيثِ فَلَيْسَ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي شَيْءٍ ; لِأَنَّهُ حَكَمَ بِالْبَيِّنَةِ، أَوِ الْيَمِينِ، فَلَوْ وَقَعَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُ الْبَاطِنَ لَا يُسَمَّى الْحُكْمُ خَطَأً، بَلِ الْحُكْمُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى مَا اسْتَقَرَّ بِهِ التَّكْلِيفُ، وَهُوَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِشَاهِدَيْنِ مَثَلًا، فَإِنْ كَانَا شَاهِدَيْ زُورٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَالتَّقْصِيرُ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْحَاكِمُ، فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا عَتْبَ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَخْطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يُحِلَّ حَرَامًا، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدُ زُورٍ لِإِنْسَانٍ بِمَالٍ، فَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَحِلَّ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ذَلِكَ الْمَالُ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِقَتْلٍ لَمْ يَحِلَّ لِلْوَلِيِّ قَتْلُهُ مَعَ عِلْمِهِ بِكَذِبِهِمَا، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَحِلَّ لِمَنْ عَلِمَ كَذِبَهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ قَضَيْتُ إِلَخْ يَعْنِي إِنْ قَضَيْتُ لَهُ بِظَاهِرٍ يُخَالِفُ الْبَاطِنَ فَهُوَ حَرَامٌ، فَلَا يَأْخُذَنَّ مَا قَضَيْتُ لَهُ ; لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا يَئُولُ بِهِ إِلَى قِطْعَةٍ مِنَ النَّارِ، فَوَضَعَ الْمُسَبَّبَ وَهُوَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ مَوْضِعَ السَّبَبِ، وَهُوَ مَا حَكَمَ بِهِ لَهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute