قَالَ: " «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا شُجَّتْ وَجْهٌ وَلَا اغْبَرَّتْ قَدَمٌ فِي عَمَلٍ وَيُبْتَغَى بِهِ دَرَجَاتُ الْآخِرَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، كَجِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ". صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، ثُمَّ الْجِهَادُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: ٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: ٣٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: ٢١٦] {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: ٤١] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " وَبِهَذِهِ يَنْتَفِي مَا نُقِلَ عَنِ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِهِ. لِلنَّدْبِ، وَكَذَا: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: ١٨٠] وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَيَجِبُ حَمْلُهُ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضِ عَيْنٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْجِهَادُ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ". فَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَخُ، وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدَ لَا يُفِيدُ الِافْتِرَاضَ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْإِيضَاحِ: إِذَا تَأَيَّدَ خَبَرُ الْوَاحِدِ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ يُفِيدُ الْفَرْضِيَّةَ مَمْنُوعٌ، بَلِ الْمُفِيدُ حِينَئِذٍ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ، وَجَاءَ الْخَبَرُ عَلَى وَفْقِهِمَا، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ، " «وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ تُقَاتِلَ آخَرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ. لَا يَطُلْهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ» ". وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْجِهَادَ مَاضٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمْ يُنْسَخْ، فَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَنَّهُ لَا قَائِلَ أَنَّ بِقِتَالِ آخَرِ الْأُمَّةِ الدَّجَّالَ، يَنْتَهِي وُجُوبُ الْجِهَادِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ عَلَى الْكِفَايَةِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ مُجَرَّدَ ابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ، بَلْ إِغْرَاءُ الْمُكَلَّفِينَ، وَدَفْعُ شَرِّ الْكُفَّارِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: ٣٩] فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ بِالْبُغْضِ سَقَطَ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ، كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ تَمَسُّكًا بِعَيْنِ الْأَدِلَّةِ إِذْ بِمِثْلِهَا تَثْبُتُ فُرُوضُ الْأَعْيَانِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَوْلَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: ٩٥] الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: ٩٥] ، أَوْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَيْنًا لَاشْتَغَلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِهِ، فَيَتَعَطَّلَ الْمَعَاشُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى بِالزِّرَاعَةِ وَالْجَلْبِ بِالتِّجَارَاتِ، وَيَسْتَلْزِمَ قَطْعَ مَادَّةِ الْجِهَادِ مِنَ الْكُرَاعِ يَعْنِي الْخَيْلَ وَالسِّلَاحَ وَالْأَقْوَاتَ فَيُؤَدِّي ; إِيجَابُهُ عَلَى الْكُلِّ إِلَى تَرْكِهِ لِلْعَجْزِ، فَلَزِمَ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ مَا ذُكِرَ إِنَّمَا يَثْبُتُ إِذَا لَزِمَ فِي كَوْنِهِ فَرْضَ عَيْنٍ أَنْ يَخْرُجَ الْكُلُّ عَنِ الْأَمْصَارِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ لَازِمًا بَلْ يَكُونُ كَالْحَجِّ عَلَى الْكُلِّ، بَلْ يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ أَنْ يَخْرُجَ، فَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ، وَفِي مَرَّةٍ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وَهَكَذَا. وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَعَطُّلَ الْمَعَاشِ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ نَصُّ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء: ٩٥] ، ثُمَّ هَذَا إِذَا يَكُنِ النَّفِيرُ عَامًّا، فَإِنْ كَانَ كَأَنْ هَجَمُوا عَلَى بَلْدَةٍ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِيرُ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَنْفِرُ عَدْلًا، أَوْ فَاسِقًا، فَيَجِبُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ النَّفَرُ، وَكَذَا مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَهْلِهَا كِفَايَةٌ، أَوْ تَكَاسَلُوا وَعَصَوْا، وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَجِبَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا، كَجِهَازِ الْمَيِّتِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ يَجِبُ أَوَّلًا عَلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا وَعَجَزُوا وَجَبَ عَلَى مَنْ بِبَلَدِهِمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، هَكَذَا ذَكَرُوا، وَكَانَ مَعْنَاهُ إِذَا دَامَ الْحَرْبُ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ الْأَبْعَدُونَ وَبَلَغَهُمُ الْخَبَرُ، وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: ٤١] قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ رُكْبَانًا وَمُشَاةً، وَقِيلَ شُبَّانًا وَشُيُوخًا، وَقِيلَ عُزَّابًا وَمُتَزَوِّجِينَ، وَقِيلَ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ ; أَيِ: انْفِرُوا مَعَ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَحَاصِلُهُ إِنْ لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ فَأَفَادَ الْعَيْنِيَّةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّ الْجِهَادَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَا يُفِيدُ تَعْيِينَهَا الْعَيْنِيَّةَ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ كُلِّهَا، لِإِفَادَةِ الْوُجُوبِ، ثُمَّ تُعْرَفُ الْكِفَايَةُ بِالْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا الْعَيْنِيَّةُ فَالْإِجْمَاعُ، مَعَ أَنَّهُ إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ الْمَظْلُومِ، وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ: الْجِهَادُ وَاجِبٌ وَأَنَّهُمْ فِي سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهِ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَيْهِمْ، هَذَا وَلَا بُدَّ مِنَ الِاسْتِطَاعَةِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَرِيضُ الْمُذْنِفُ، وَأَمَّا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ دُونَ الدَّفْعِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ لِتَكْثِيرِ السَّوَادِ فَإِنَّ فِيهِ إِرْهَابًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute