فِيهِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالثَّغْرُ مَا يَلِي دَارَ الْعَدُوِّ. (وَإِنْ مَاتَ) : أَيِ الْمُرَابِطُ بِدَلَالَةِ الرِّبَاطِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، أَوْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ (جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ) : أَيْ ثَوَابُ عَمَلِهِ (الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ) : أَيْ فِي حَيَاتِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَصِلُ إِلَيْهِ ثَوَابُ عَمَلِهِ أَبَدًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذِهِ فَضِيلَةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُرَابِطِ لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، وَقَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . (وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ; أَيْ أُوصِلَ إِلَيْهِ (رِزْقُهُ) ; أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ كَقَوْلِهِ جَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ; أَيْ: يُقَدَّرُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا جَرَى مِنْهُ قَبْلَ الْمَمَاتِ، فَجَرَى هُنَا. بِمَعْنَى قُدِّرَ، وَنَحْوُهُ فِي الْمَرِيضِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ، ثُمَّ مَرِضَ قِيلَ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِهِ اكْتُبْ لَهُ مِثْلَ عَمَلِهِ إِذَا كَانَ طَلِيقًا» ". قُلْتُ: وَكَذَا وَرَدَ فِي الْمُسَافِرِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ. قَالَ: وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ " تَلْمِيحًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (يُرْزَقُونَ) أُجْرِيَ مَجْرَاهُ فِي الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (وَأَمِنَ الْفَتَّانَ) . بِفَتْحِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ ; أَيْ عَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَتَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي الْفَصْلِ الثَّانِي، أَوِ الَّذِي يَفْتِنُ الْمَقْبُورَ بِالسُّؤَالِ فَيُعَذِّبُهُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الدَّجَّالَ، وَقِيلَ: الشَّيْطَانَ فَإِنَّهُ يَفْتِنُ النَّاسَ بِخَدْعِهِ إِيَّاهُمْ وَبِتَزْيِينِ الْمَعَاصِي لَهُمْ. وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّ الْفَاءِ.
وَقَالَ شَارِحٌ لِلْمَصَابِيحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: وَيُرْوَى الْفُتَّانُ جَمْعُ فَاتِنٍ ; أَيْ نَارٌ مُحْرِقَةٌ، أَوِ الزَّبَانِيَةُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ الْكُفَّارَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَالثَّانِي أُومِنَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَإِثْبَاتِ الْوَاوِ، وَالْفُتَّانُ رِوَايَةُ الْأَكْثَرِينَ بِضَمِّ الْفَاءِ جَمْعُ فَاتِنٍ، وَرِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ بِالْفَتْحِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَأُمِنَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: إِذَا رُوِيَ بِالْفَتْحِ فَالْوَجْهُ مَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الَّذِي يَفْتِنُ الْمَقْبُورَ بِالسُّؤَالِ فَيُعَذِّبُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَيُقَيَّضُ لَهُ أَعْمَى أَصَمُّ " وَإِنْ رُوِيَ بِالضَّمِّ فَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْفِتَنِ بَعْدَ الْإِقْبَارِ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَالسُّؤَالِ وَالتَّعْذِيبِ فِي الْقَبْرِ، وَبَعْدَهُ مِنْ أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: وَبُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَهِيدًا، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِ ثِقَاتٍ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ " «مَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَمِنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ» " وَلَفْظُ ابْنِ مَاجَهْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: " وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنَ الْفَزَعِ " وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «إِنَّ صَلَاةَ الْمُرَابِطِ تَعْدِلُ خَمْسَمِائَةِ صَلَاةٍ، وَنَفَقَتُهُ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِمِائَةِ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِهِ» ". وَالْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهِ كَثِيرَةٌ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الرِّبَاطُ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَفِي النَّوَازِلِ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ وَرَاءَهُ إِسْلَامٌ ; لِأَنَّ مَا دُونَهُ لَوْ كَانَ رِبَاطًا، فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ فِي بِلَادِهِمْ مُرَابِطُونَ، وَيُؤَيِّدُهَا فِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: " «مَنْ حَرَسَ مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَطَوِّعًا لَا يَأْخُذُهُ سُلْطَانٌ لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنِهِ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: ٧١] » . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، لَكِنْ لَيْسَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ فِيهَا سِوَى الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلِتُخْتَمَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ بِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ( «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ» " زَادَ فِي رِوَايَةٍ: " «وَعَبْدُ الْقَطِيفَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَعَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثُ رَأْسُهُ مُغْبَرَّةٌ قَدَمَاهُ إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ» ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute