للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

سَبْعُونَ قَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: ١٦٥] وَإِنَّمَا اخْتَارُوا ذَلِكَ رَغْبَةً مِنْهُمْ فِي إِسْلَامِ أُسَارَى بَدْرٍ فِي نَيْلِهِمْ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ وَشَفَقَةً مِنْهُمْ عَلَى الْأُسَارَى بِمَكَانِ قَرَابَتِهِمْ مِنْهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ هَذَا الْحَدِيثُ مُشْكِلٌ جِدًّا لِمُخَالَفَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ وَلِمَا صَحَّ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي أَمْرِ أُسَارَى بَدْرٍ أَنَّ أَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ رَأْيًا رَأَوْهُ فَعُوتِبُوا عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ تَخْيِيرٌ بِوَحْيٍ سَمَاوِيٍّ لَمْ تَتَوَجَّهِ الْمُعَاتَبَةُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: ٦٧] إِلَى قَوْلِهِ {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: ٦٨] وَأَظْهَرَ لَهُمْ شَأْنَ الْعَاقِبَةِ بِقَتْلِ سَبْعِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ غَزْوَةِ أُحُدٍ عَنْ نُزُولِ قَوْلِهِ {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: ١٦٥] وَمِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُ هَذَا التَّأْوِيلَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَعَلَّ عَلِيًّا ذَكَرَ هُبُوطَ جِبْرِيلَ فِي شَأْنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيَانِهَا فَاشْتَبَهَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الرُّوَاةِ وَمِمَّا جَرَّأَنَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا هُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ تَفَرَّدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ ذَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سُفْيَانَ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ فَلَمْ يَرْوِهِ غَيْرُهُ، وَالسَّمْعُ قَدْ يُخْطِئُ وَالنِّسْيَانُ كَثِيرًا قَدْ يَطْرَأْ عَلَى الْإِنْسَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ عَنْهُ مُتَّصِلًا وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مُرْسَلًا فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْقَوْلَ لِظَاهِرِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: أَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ التَّخْيِيرَ فِي الْحَدِيثِ وَارِدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ امْتَحَنَ اللَّهُ تَعَالَى أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: ٢٨] الْآيَتَيْنِ وَامْتَحَنَ النَّاسَ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة: ١٠٢] وَامْتَحَنَ النَّاسَ بِالْمَلَكَيْنِ وَجَعَلَ الْمِحْنَةَ فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْعَامِلُ تَعَلُّمَ السِّحْرِ فَيَكْفُرَ، وَيُؤْمِنَ بِتَرْكِ تَعَلُّمِهِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَحَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ وَأَنْزَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ هَلْ هُمْ يَخْتَارُونَ مَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ تَعَالَى مِنْ قَتْلِ أَعْدَائِهِ أَمْ يُؤْثِرُونَ الْعَاجِلَةَ مِنْ قَبُولِ الْفِدَاءِ فَلَمَّا اخْتَارُوا الثَّانِيَ عُوقِبُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: ٦٧] قُلْتُ بِعَوْنِ اللَّهِ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ غَيْرُ مَقْبُولٍ ; لِأَنَّهُ مَعْلُولٌ وَمَدْخُولٌ فَإِنَّهُ إِذَا صَحَّ التَّخْيِيرُ لَمْ يُجْزِ الْعِتَابُ وَالتَّعْيِيرُ فَضْلًا عَنِ التَّعْذِيبِ وَالتَّعْزِيزِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَخْيِيرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُنَّ لَوِ اخْتَرْنَ الدُّنْيَا لَعُذِّبْنَ فِي الْعُقْبَى وَلَا فِي الْأُولَى وَغَايَتُهُ أَنَّهُنَّ يُحْرَمْنَ مِنْ مُصَاحَبَةِ الْمُصْطَفَى لِفَسَادِ اخْتِيَارِهِنَّ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى، وَأَمَّا قَضِيَّةُ الْمَلَكَيْنِ وَقَضِيَّةُ تَعْلِيمِ السِّحْرِ فَنَعَمِ امْتِحَانٌ مِنَ اللَّهِ وَابْتِلَاءٌ، لَكِنْ لَيْسَ فِيهِ تَخْيِيرٌ لِأَحَدٍ وَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩] أَنَّهُ أَمْرُ تَهْدِيدٍ لَا تَخْيِيرٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّهُمْ يُؤَثِرُونَ الْأَعْرَاضَ الْعَاجِلَةَ مِنْ قَبُولِ الْفِدْيَةِ فَلَمَّا اخْتَارُوهُ عُوقِبُوا بِقَوْلِهِ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} [الأنفال: ٦٧] الْآيَةَ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْجَرَاءَةِ الْعَظِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ الْجَسِيمَةِ فَإِنَّهُمْ مَا اخْتَارُوا الْفِدْيَةَ إِلَّا لِلتَّقْوِيَةِ عَلَى الْكُفَّارِ وَلِلشَّفَقَةِ عَلَى الرَّحِمِ وَلِرَجَاءِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ، أَوْ فِي أَصْلَابِهِمْ مَنْ يُؤْمَنُ وَلَا شَكَّ أَنْ هَذَا وَقَعَ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا وَافَقَ رَأْيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَايَتُهُ أَنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ وَقَعَ أَصْوَبَ عِنْدَهُ تَعَالَى فَيَكُونُ مِنْ مُوَافِقَاتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيُسَاعِدُنَا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ أَنَّهُ يُعَضِّدُهُ سَبَبُ الزَّوَالِ رَوَى مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ قُلْتُ لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنِّي أَرَى أَنْ تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهُ فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي وَصَاحِبُكَ فَقَالَ أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ اهـ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مُجْتَهِدُونَ وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ خَطَأً وَلَكِنْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: ٦٨] ; أَيْ لَوْلَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ إِثْبَاتُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُوَ أَنْ لَا يُعَاقِبَ الْمُخْطِئَ فِي اجْتِهَادِهِ، أَوْ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَهْلَ بَدْرٍ، أَوْ قَوْمًا لَمْ يُصَرِّحْ لَهُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، أَوْ أَنَّ الْفِدْيَةَ الَّتِي أَخَذُوهَا سَتَحُلُّ لَهُمْ لَمَسَّكُمْ ; أَيْ لَنَالَكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ مِنَ الْفِدَاءِ عَذَابٌ عَظِيمٌ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَمْعًا بَيْنَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْهُمْ أَوَّلًا كَانَ بِالْإِطْلَاقِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّخْيِيرُ بَعْدَهُ بِالتَّقْيِيدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَأَمَّا قَوْلُهُ، ثُمَّ إِنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ عَنْهُ مُتَّصِلًا وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِهِ مُرْسَلًا فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِظَاهِرَهِ فَفِيهِ بَحْثٌ فَإِنَّ الْمُرْسَلَ إِذَا اعْتَضَدَ بِضَعِيفٍ مُتَّصِلٍ يَحْصُلُ فِيهِ نَوْعُ قُوَّةٍ فَيَدْخُلُ فِي جِنْسِ الْحَسَنِ، فَكَيْفَ يُقَالُ عِنْدَ ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْقَوْلَ بِظَاهِرِهِ، قُلْتُ لَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ اضْطِرَابٌ فِي إِسْنَادِهِ وَالْمُضْطَرِبُ ضَعِيفٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّ السَّهْوَ وَقَعَ مِنَ الْمُرْسِلِ أَوْ مِنَ الْمُوَصِّلِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَدْخُلُ الضَّعْفُ فِي سَنَدِهِ، وَإِلَّا فَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ وَمِنْهُمْ إِمَامُ الشَّيْخِ وَأَمَّا قَوْلُهُ فَكَانَ ذَلِكَ فَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنْ مُخَالَفَتِهِ لِلْآيَةِ وَانْفِرَادِ إِسْنَادِهِ وَإِرْسَالِهِ، ثُمَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا يُشْعِرُ بِالطَّعْنِ فِيهِ ; لِأَنَّ الْغَرِيبَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا قُلْتُ وَقَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا فَيَصْلُحُ لِلطَّعْنِ فِي الْجُمْلَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>