الْأُلُوهِيَّةِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى، وَإِثْبَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالتَّوْحِيدِ الذَّاتِيِّ لَهُ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا الْمُرَكَّبُ هُوَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي عَلَيْهَا مَبْنَى الْإِيمَانِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: ٢٥٦] وَلَا يَضُرُّنَا إِيرَادُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ فَإِنَّهُ بِحَسَبِ فَهْمِ بَعْضِ الْمُصَنِّفِينَ وَبِمَا قُلْنَا تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ التَّامَّةُ بَيْنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ فِي قَوْلِهِ (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) : أَيْ تَلَفُّظُهُ أَوْ تَصَوُّرُهُ (تَمْلَأُ الْمِيزَانَ) بِالتَّأْنِيثِ عَلَى تَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ أَوِ الْجُمْلَةِ وَقِيلَ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى إِرَادَةِ اللَّفْظِ أَوِ الْكَلَامِ أَوِ الْمُضَافِ الْمُقَدَّرِ أَيْ: لَوْ قُدِّرَ ثَوَابُهُ مُجَسَّمًا لَمَلَأَ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْأَقْوَالَ وَالْأَعْمَالَ وَالْمَعَانِيَ تَتَجَسَّدُ ذَوَاتُهَا فِي الْعَالَمِ الثَّانِي وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ: ثَوَابُهَا لَوْ جُسِّمَ أَوْ هِيَ لَوْ جُسِّمَتْ بِاعْتِبَارِ ثَوَابِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِظُهُورِ عَدَمِ الْفَرْقِ هَذَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ تُوزَنُ الْأَعْمَالُ وَهِيَ أَعْرَاضٌ مُسْتَحِيلَةُ الْبَقَاءِ، وَكَذَا الْأَعْرَاضُ لَا تُوصَفُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ نُصُوصَ الشَّرْعِ تَظَاهَرَتْ عَلَى وَزْنِ الْأَفْعَالِ وَثِقَلِ الْمَوَازِينِ وَخِفَّتِهَا، وَثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ لِلْمِيزَانِ لِسَانًا وَكِفَّتَيْنِ إِحْدَاهُمَا بِالْمَشْرِقِ، وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ، تُكْتَبُ حَسَنَاتُهُ فِي صَحِيفَةٍ وَتُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، وَتُكْتَبُ سَيِّئَاتُهُ وَتُوضَعُ فِي الْأُخْرَى فَوَجَبَ الْقَبُولُ وَتُرِكَ الِاعْتِرَاضُ بِسَبَبِ قُصُورِ الْفَهْمِ وَرَكَاكَةِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَسْرَارِ وَكَشَفَ لَهُ عَجَائِبَ الْأَقْدَارِ يَرَى أَنَّ الْمُقَيَّدَ بِعَقْلِهِ لَيْسَ لَهُ مِقْدَارٌ عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ وَزْنُ الصَّحَائِفِ. وَقَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: النَّفْسُ بِذَاتِهَا مُهَيِّئَةٌ لِأَنْ يَنْكَشِفَ لَهَا حَقَائِقُ الْأُمُورِ، لَكِنَّ تَعَلُّقَهَا بِالْجَسَدِ مَانِعٌ عَنْ ذَلِكَ، فَإِذَا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ بِالْمَوْتِ يَعْرِفُ أَنَّ أَعْمَالَهُ مُؤَثِّرَةٌ فِي تَقْرِيبِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِبْعَادِهِ، وَيَعْلَمُ مَقَادِيرَ تِلْكَ الْآثَارِ وَأَنَّ بَعْضَهَا أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنَ الْبَعْضِ، وَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُجْرِيَ سَبَبًا يُعَرِّفُ الْخَلْقَ فِي لَحْظَةٍ مَقَادِيرَ الْأَعْمَالِ بِتَشْكِيلٍ حَقِيقِيٍّ أَوْ تَمْثِيلٍ خَيَالِيٍّ، فَحَدُّ الْمِيزَانِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، وَمِثَالُهُ فِي الْعَالَمِ الْحِسِّيِّ مُخْتَلِفٌ، كَالْمِيزَانِ وَالْقَبَّانِ لِلْأَثْقَالِ، وَالِاضْطِرَابِ لِحَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ، وَالْمَسْطَرَةِ لِمَقَادِيرِ الشِّعْرِ فَلِتَقْرِيبِهِ بِأَفْهَامِ الْبَلِيدِ وَالْجَلِيدِ مِثْلَ مَا أُرِيدَ اهـ.
فَمُخَالَفَتُهُ الْمُعْتَزِلَةَ فِيهِ كَنَظَائِرِهِ إِنَّمَا نَشَأَتْ عَنْ تَحْكِيمِ عُقُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ، وَنَظَرِهِمْ إِلَى الْأَدِلَّةِ الْوَاهِيَةِ الْكَاسِدَةِ ( «وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ أَوْ تَمْلَأُ» ) الشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي. قَالَ النَّوَوِيُّ: ضَبَطْنَاهُمَا بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ قَالَ الطِّيبِيُّ فَالْأَوَّلُ أَيْ: تَمْلَآنِ ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي فِيهَا ضَمِيرُ الْجُمْلَةِ أَيِ: الْجُمْلَةُ الشَّامِلَةُ لَهُمَا. قُلْتُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِفْرَادُ بِتَقْدِيرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) : إِمَّا بِاعْتِبَارِ الثَّوَابِ أَوْ لِأَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ وَنَفْيِ النُّعُوتِ السَّلْبِيَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ( «وَالصَّلَاةُ نُورٌ» ) أَيْ: فِي الْقَبْرِ وَظُلْمَةِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ: إِنَّهَا تَمْنَعُ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَتَهْدِي إِلَى الصَّوَابِ كَالنُّورِ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالنُّورِ الْأَمْرَ الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ صَاحِبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ تَعَالَى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: ١٢] وَقِيلَ: لِأَنَّهَا سَبَبُ إِشْرَاقِ أَنْوَاعِ الْعَارِفِ وَانْشِرَاحِ الْقَلْبِ وَمُكَاشَفَاتِ الْحَقَائِقِ لِفَرَاغِ الْقَلْبِ فِيهَا، وَقِيلَ: النُّورُ: السِّيمَا فِي وَجْهِ الْمُصَلِّي، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ» ) مَعْنَاهُ يُفْزَعُ إِلَيْهَا كَمَا يُفْزَعُ إِلَى الْبُرْهَانِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سُئِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ مَصْرِفِ مَالِهِ كَانَتْ صَدَقَتُهُ بَرَاهِينُ فِي الْجَوَابِ، وَقِيلَ: يُوسَمُ الْمُتَصَدِّقُ بِسِيمَاءَ يُعْرَفُ بِهَا فَيَكُونُ بُرْهَانًا عَلَى الْفَلَاحِ وَالْهُدَى، فَلَا يُسْأَلُ عَنِ الْمَصْرِفِ وَقِيلَ: إِنَّهَا حُجَّةٌ عَلَى إِيمَانِ صَاحِبِهَا فَإِنَّ الْمُنَافِقَ يَمْتَنِعُ مِنْهَا ( «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ» ) : بِالْيَاءِ الْمُنْقَلِبَةِ عَنِ الْوَاوِ لِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا وَرُوِيَ بِالْهَمْزَةِ قَبْلَ الْأَلِفِ، قِيلَ: الصَّبْرُ هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَمَّا تَتَمَنَّى مِنَ الشَّهَوَاتِ وَعَلَى مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ وَفِيمَا يَصْعُبُ عَلَيْهَا مِنَ النَّائِبَاتِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الصَّبْرُ عَنِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا الدَّنِيَّةِ، وَعَنِ الْمَعَاصِي، وَعَلَى التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ. وَفِي الْمُصِيبَاتِ وَالْمِحَنِ الْكَوْنِيَّةِ فَيَخْرُجُ الْعَبْدُ عَنْ عُهْدَتِهَا فَتَكُونُ ضِيَاءً لِأَنَّ بِتَرْكِ الصَّبْرِ عَلَيْهَا يَدْخُلُ فِي ظُلْمَةِ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالصَّبْرِ هُنَا الصَّوْمُ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ مَعَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ، إِذِ الْمُرَادُ بِهَا الزَّكَاةُ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: ٤٥] وَسُمِّيَ الصَّوْمُ صَبْرًا لِثَبَاتِ الصَّائِمِ وَحَبْسِهِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَسُمِّيَ شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَقِيلَ قَوْلُهُ: (ضِيَاءٌ) يَعْنِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا صَبَرَ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْبَلَايَا فِي سَعَةِ الدُّنْيَا، وَعَنِ الْمَعَاصِي فِيهَا جَازَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّفْرِيجِ وَالتَّنْوِيرِ فِي ضِيقِ الْقَبْرِ وَظُلْمَتِهِ: وَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute