عَنِ السُّجُودِ لِأَنَّهُمَا رُكْنَانِ مُتَعَاقِبَانِ، فَإِذَا حُثَّ عَلَى إِحْسَانِ أَحَدِهِمَا حُثَّ عَلَى الْآخَرِ، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ أَشَدُّ فَافْتُقِرَ إِلَى زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ، لِأَنَّ الرَّاكِعَ يَحْمِلُ نَفْسَهُ فِي الرُّكُوعِ وَيَتَحَامَلُ فِي السُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ، وَقِيلَ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا خُصَّ الرُّكُوعُ بِالذِّكْرِ دُونَ السُّجُودِ! لِاسْتِتْبَاعِهِ السُّجُودَ، إِذْ لَا يَسْتَقِلُّ عِبَادَةً وَحْدَهُ بِخِلَافِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِلُّ عِبَادَةً كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَالشُّكْرِ، كَذَا نَقَلَهُ السَّيِّدُ. قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: تَخْصِيصُ الرُّكُوعِ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرَادَ التَّحْرِيضَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ هَذَا فِي الْأَغْلَبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ مَرْيَمَ: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: ٤٣] قِيلَ: أُمِرَتْ أَنْ تَرْكَعَ مَعَ الرَّاكِعِينَ، وَلَا تَكُنْ مَعَ مَنْ لَا يَرْكَعُ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ انْقَادِي وَصَلِّي مَعَ الْمُصَلِّينَ فَحِينَئِذٍ لَا إِشْكَالَ (إِلَّا كَانَتْ) : أَيِ: الصَّلَاةُ (كَفَّارَةً) : أَيْ: سَاتِرَةً (لِمَا قَبْلَهَا) : أَيْ: لِجَمِيعِ مَا قَبْلَهَا (مِنَ الذُّنُوبِ) : وَإِذَا أَتَى الْكَبِيرَةَ لَمْ يَكُنْ كَفَّارَةً لِلْجَمِيعِ، وَلِذَا قَالَ (مَا لَمْ يُؤْتِ) : بِكَسْرِ التَّاءِ مَعْلُومًا مِنَ الْإِيتَاءِ، وَقِيلَ: مَجْهُولٌ أَيْ مَا لَمْ يَعْمَلْ (كَبِيرَةً) بِالنَّصْبِ لَا غَيْرَ كَانَ الْفَاعِلُ يُعْطَى الْعَمَلَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ يُعْطِيهِ غَيْرَهُ مِنَ الدَّاعِي، أَوِ الْمُحَرِّضِ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُمَكِّنِ لَهُ مِنْهُ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا} [الأحزاب: ١٤] بِالْمَدِّ لَأَعْطَوْهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَفِي نُسْخَةٍ: مَا لَمْ يَأْتِ مِنَ الْإِتْيَانِ كَمَا فِي الْمَصَابِيحِ أَيْ: مَا دَامَ لَمْ يَعْمَلْ كَبِيرَةً قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: إِثْبَاتُ يَأْتِ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ فِي كِتَابِ الْمَصَابِيحِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْحَدِيثَ مِنْ مَفَارِيدِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يَرْوِهِ إِلَّا مِنَ الْإِتْيَانِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْتِ أَوْضَحَ مَعْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ: أَتَى فُلَانٌ مُنْكَرًا لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ مِنْ جِهَةِ الرَّاوِيَةِ الْإِيتَاءُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى مَا لَمْ يَعْمَلْ كَبِيرَةً وَضَعَ الْإِيتَاءَ مَوْضِعَ الْعَمَلِ لِأَنَّ الْعَامِلَ يُعْطِي الْعَمَلَ مِنْ نَفْسِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ مَا لَمْ يُصَبْ بِكَبِيرَةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: أُتِيَ فُلَانٌ فِي بَدَنِهِ أَيْ أَصَابَتْهُ عِلَّةٌ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (وَذَلِكَ) أَيِ: التَّكْفِيرُ بِسَبَبِ الصَّلَاةِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ وَذُو الْحَالِ مُسْتَتِرٌ فِي خَبَرِ كَانَتْ وَهُوَ كَفَّارَةٌ قَالَ الطِّيبِيُّ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ اسْتِئْنَافِيَّةٌ (الدَّهْرَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَمَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ أَيْ: حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الدَّهْرِ (كُلَّهُ) : تَأْكِيدٌ لَهُ أَيْ: لَا وَقْتٌ دُونَ وَقْتٍ قَالَ الْأَشْرَفُ: الْمُشَارُ إِلَيْهِ إِمَّا تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ أَيْ تَكْفِيرُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الصَّغَائِرَ لَا يَخْتَصُّ بِفَرْضٍ وَاحِدٍ، بَلْ فَرَائِضُ الدَّهْرِ تُكَفِّرُ صَغَائِرَهُ، وَأَمَّا مَعْنَى مَا لَمْ يُؤْتِ أَيْ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِالْكَبِيرَةِ فِي الدَّهْرِ كُلِّهِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْمَكْتُوبَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَأَمَّا مَا قِيلَ أَيِ الْمَكْتُوبَةُ تُكَفِّرُ مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ذُنُوبُ الْعُمْرِ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ لِمَا وَرَدَ: ( «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» ) وَانْتَصَبَ الدَّهْرُ بِالظَّرْفِيَّةِ أَيْ: وَذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ فِي جَمِيعِ الدَّهْرِ. قَالَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَفَّارَةٌ لِمَا قَبْلَهَا إِلَخْ، أَنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا تُغْفَرُ إِلَّا الْكَبَائِرَ فَإِنَّهَا لَا تُغْفَرُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً فَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يُغْفَرُ شَيْءٌ مِنَ الصَّغَائِرِ فَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَلَا يُذْهَبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَا أَشْبَهَهُ صَالِحٌ لِلتَّكْفِيرِ فَإِنْ وُجِدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنَ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ، وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً وَلَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً يَعْنِي غَيْرَ مُكَفَّرَةٍ رَجَوْنَا أَنْ يُخَفَّفَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَإِلَّا كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَ بِهِ دَرَجَاتٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ وَقَوْلُ الْأَشْرَفِ: أَيِ الْمَكْتُوبَةُ تُكَفِّرُ مَا قَبْلَهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ ذُنُوبُ الْعُمْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَتَأَمَّلْهُ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute