وَلَعَلَّ هَذَا الْحَلِفَ قَبْلَ النَّهْيِ عَنِ الْقَسَمِ بِالْآبَاءِ، أَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ بِلَا قَصْدٍ إِلَى الْيَمِينِ، وَلَا قَصْدٍ إِلَى تَعْظِيمِ الْأَبِ، كَمَا فِي: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: هِيَ كَلِمَةٌ جَاءَ بِهَا عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ، يَسْتَعْمِلُهَا كَثِيرٌ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ يُرِيدُ بِهَا التَّوْكِيدَ. قُلْتُ: وَهُوَ فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعِيدٌ جِدًّا، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعَوَّلُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَ " أَبِي " جُمْلَةُ قَسَمِيَّةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ الدَّالَّيْنِ عَلَى الْجَوَابِ يَعْنِي مُجْمَلًا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: ذَلِكَ الشُّرْبُ الَّذِي تَقُولُونَ قَلِيلٌ تَجُوعُونَ فِيهِ وَتَحْتَاجُونَ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: (فَأَحَلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ) . قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ مَعَ أَدْنَى شِبَعٍ، وَالتَّنَاوُلَ مِنْهُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ، وَقَدْ خَالَفَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ، وَالْأَمْرُ الَّذِي يُبِيحُ لَهُ الْمَيْتَةَ هُوَ الِاضْطِرَارُ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَعَ مَا يَتَبَلَّغُ بِهِ مِنَ الْغَبُوقِ وَالصَّبُوحِ فَيُمْسِكُ الرَّمَقَ، فَالْوَجْهُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: الِاغْتِبَاقُ بِقَدَحٍ وَالِاصْطِبَاحُ بِآخَرَ كَانَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ قَوْلُ السَّائِلِ: (مَا يَحِلُّ لَنَا؟) كَأَنَّهُ كَانَ وَافِدَ قَوْمِهِ فَلَمْ يَسْأَلْ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، وَكَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا طَعَامُكُمْ؟) ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْمَ مُضْطَرُّونَ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِعَدَمِ الْغِنَى فِي إِمْسَاكِ الرَّمَقِ بِمَا وَصَفَهُ مِنَ الطَّعَامِ، أَبَاحَ لَهُمْ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ. هَذَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْقَدَحُ مِنَ اللَّبَنِ بِالْغُدْوَةِ وَالْقَدَحُ بِالْعَشِيِّ يُمْسِكُ الرَّمَقَ وَيُقَيِّمُ النَّفْسَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِعُ الشِّبَعَ التَّامَّ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ، وَكَانَ دَلَالَتَهُ أَنَّ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ مُبَاحٌ إِلَى أَنْ تَأْخُذَ مِنَ الْقُوتِ الشِّبَعِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ مَا يُمْسِكُ بِهِ رَمَقَهُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ لِلشَّافِعِيِّ اهـ. وَأَغْرَبَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَ لَا يَشْبَعُ الشِّبَعَ التَّامَّ حَيْثُ يَشْعُرُ بِأَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ يَحِلُّ مَعَ الشِّبَعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَامًّا، وَلَا أَظُنُّ أَحَدًا قَالَ بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ ; فَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَالِ فَمَمْنُوعٌ، إِذْ لَا دَلَالَةَ لِلْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مَعَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ وَمُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ كَمَا سَبَقَ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ، لَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدَةَ تَرْجِيحُ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُبَاحِ احْتِيَاطًا، وَقَدْ خَطَرَ بِالْبَالِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالْحَالِ - أَنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّائِرِينَ الْمُسَافِرِينَ الْمُضْطَرِّينَ إِلَى سَيْرِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شُرْبَ الْقَدَحَيْنِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ قَلِيلٌ جِدًّا لَا يَسُدُّ مَسَدَّ شَيْءٍ لِاحْتِرَاقِهِ بِحَرَارَةِ حَرَكَةِ الْمَشْيِ، وَالْحَدِيثُ الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَاطِنِينَ فِي أَمَاكِنِهِمْ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسُدُّ مَسَدَّ رَمَقِهِمْ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ ; فَبَعْضُهُمْ يَصُومُونَ وِصَالًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَأَكْثَرَ إِلَى أَرْبَعِينَ فَصَاعِدًا لَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مَاءً، أَوْ يَأْكُلُونَ لَوْزَةً، وَبَعْضُهُمْ لَهُمْ قُوَّةُ الشَّهِيَّةِ بِحَيْثُ يَأْكُلُونَ غَنَمًا أَوْ بَقَرًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ السَّائِلَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ هُوَ الْوَافِدُ، وَفِي الثَّانِي قَالَ سَائِلُهُمْ: إِنَّمَا نَكُونُ بِأَرْضٍ فَتُصِيبُنَا بِهَا الْمَخْمَصَةُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute