(أَوْ تَحْتَفِئُوا) : بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ أَيْ أَوْ لَمْ تَعْتَلِفُوا (بِهَا) : أَيْ مِنَ الْأَرْضِ (بَقْلًا، فَشَأْنَكُمْ) : بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمُوا شَأْنَكُمْ (بِهَا) : أَيْ بِالْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا حَلَّتْ لَكُمْ حِينَئِذٍ. وَفِي النِّهَايَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الضَّرِيرُ: صَوَابُهُ مَا لَمْ يُحْتِفُوا بِغَيْرِ هَمْزٍ مِنْ إِحْفَاءِ الشَّعْرِ، وَمَنْ قَالَ تَحْتَفِئُوا مَهْمُوزًا مِنَ الْحَفَأِ وَهُوَ الْبَرْدِيُّ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّ الْبَرْدِيَّ لَيْسَ مِنَ الْبُقُولِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هُوَ مِنَ الْحَفَأِ مَهْمُوزٌ مَقْصُورٌ وَهُوَ أَصْلُ الْبَرْدِيِّ الْأَبْيَضِ الرَّطْبِ مِنْهُ، وَقَدْ يُؤْكَلُ بِقَوْلِهِ: مَا لَمْ تَعْتَلِفُوا، وَهَذَا بِعَيْنِهِ فَيَأْكُلُونَهُ، وَيُرْوَى " مَا لَمْ تَحْتَفُّوا " بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ مِنِ احْتَفَفْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخَذْتَهُ كُلَّهُ كَمَا تَحُفُّ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا مِنَ الشَّعْرِ.
وَيُرْوَى مَا لَمْ يَحْتَفُوا بَقْلًا أَيْ: يَقْلَعُوهُ وَيَرْمُوا بِهِ مِنْ حَفَأَتِ الْقِدْرُ إِذَا رَمَيْتَ بِمَا يَجْتَمِعُ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الزَّبَدِ وَالْوَسَخِ، وَيُرْوَى بِالْخَاءِ يُقَالُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَأَخْفَيْتُهُ إِذَا سَتَرْتَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " أَوْ " فِي الْقَرِينَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: ٦] ، وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هِيَ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخِلَالِ الثَّلَاثِ حَتَّى يَحِلَّ تَنَاوُلُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَعَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ التُّورِبِشْتِيِّ، وَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ كَمَا عَلَيْهِ ظَاهِرُ كَلَامِ الْإِمَامِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ حَيْثُ قَالَ: إِذَا اصْطَبَحَ الرَّجُلُ أَوْ تَغَدَّى بِطَعَامٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ نَهَارَهُ ذَلِكَ أَكْلُ الْمَيْتَةَ، وَكَذَلِكَ إِذَا تَعَشَّى أَوْ شَرِبَ غَبُوقًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ لَيْلَتَهُ تِلْكَ لِأَنَّهُ يَتَبَلَّغُ بِتِلْكَ الشَّرْبَةِ اهـ.
وَالِاخْتِلَافُ اللَّاحِقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ السَّابِقِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ إِطْلَاقِ الِاصْطِبَاحِ وَالِاغْتِبَاقِ هُنَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الشِّبَعِ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ مِنَ الِاصْطِبَاحِ وَالِاغْتِبَاقِ الْمُؤَوَّلِ بِالْقَدَحَيْنِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُمَا مِمَّا لَا يُكْتَفَى بِهِمَا فِي دَفْعِ الْجُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِهِ أَيْضًا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ فَتَدَبَّرْ، وَيُسْتَفَادُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ إِذَا كَانَتْ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ: فَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْخِلَالُ الثَّلَاثُ لَمْ تَحِلَّ الْمَيْتَةُ وَإِلَّا حَلَّتْ فَيُوَافِقُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي حِلِّهَا مَعَ اجْتِمَاعِ الصَّبُوحِ وَالْغَبُوقِ، وَكَذَا إِذَا قِيلَ إِنَّ " أَوْ " لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَيْ مَا دَامَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الثَّلَاثَةِ أَيْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى حَدِّ {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: ٢٤] ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى أَنَّ " أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ لِأَنَّهُ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَالْمَعْنَى فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أَيْ بِطَرِيقِ الشِّبَعِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الْمَيْتَةُ، ثُمَّ رَأَيْتُ شَارِحًا لِلْمَصَابِيحِ مِنْ عُلَمَائِنَا ذَهَبَ فِي وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ إِلَى نَحْوِ مَا ذَهَبْتُ إِلَيْهِ فِيمَا حَرَّرْتُهُ فَقَالَ: وَقِيلَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " نَغْتَبِقُ وَنَصْطَبِحُ " أَنَّ غَايَةَ مَا نَتَعَشَّى بِهِ وَنَتَغَدَّى فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، قَدَحٌ فِي الْعَشَاءِ، وَقَدَحٌ فِي الْغَدَاءِ، وَيُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: " مَا طَعَامُكُمْ؟ "، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عُرْفًا عَلَى السُّؤَالِ عَمَّا هُوَ الْغَالِبُ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي أَغْلَبِ الْأَوْقَاتِ يُفْضِي إِلَى مُكَابَدَةِ الْجُوعِ وَتَحَلُّلِ الْبَدَنِ وَتَعَطُّلِ الْجَوَارِحِ ; وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ " وَأَلْحَقَهُمْ بِالْمُضْطَرِّينَ وَرَخَّصَ لَهُمْ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ، وَأَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ (مَا لَمْ يَصْطَحِبُوا) . . الَخْ فِي زَمَانِ الْمَخْمَصَةِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَحَالٍ دُونَ حَالٍ، أَوْ بِالِاغْتِبَاقِ وَالِاصْطِبَاحِ تَنَاوَلَ مَا يُشْبِعُهُمْ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكْفِيهِمْ وَيَحْفَظُ قُوَاهُمْ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُهُ: " مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا " " مَا " لِلْمُدَّةِ، وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَحِلُّ لَكُمْ مُدَّةَ عَدَمِ اصْطِبَاحِكُمْ. . الَخْ. وَالْفَاءُ فِي " فَشَأْنَكُمْ " جَزَاؤُهُ أَيْ: مَهْمَا فَقَدْتُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَالْتَزِمُوا تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا} [المائدة: ٤] ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ قَالَ مَسْرُوقٌ: " مَنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى يَمُوتَ دَخَلَ النَّارَ " قَالَ مَعْمَرٌ: وَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْخَمْرِ رُخْصَةٌ ". قُلْتُ: وَقَدْ صَرَّحَ عُلَمَاؤُنَا أَيْضًا بِمَا سَبَقَ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ شُرْبِ الدَّمِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ مَعَ نَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: ١٤٥] ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ فِي الْخَمْرِ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ حَلَالًا، فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِجَوَازِ إِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ فِي الْحَلْقِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهَا. (رَوَاهُ الدَّارِمِيِّ) . وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute