وَ " مَا " مَوْصُولَةٌ وَفِيهِ: أَنَّ كِتَابَتَهَا مَوْصُولَةٌ تَأْتِي كَوْنَهَا مَوْصُولَةً. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا جُعِلَ الْمَشْرُوبُ فِيهِ نَارًا مُبَالَغَةً ; لِكَوْنِهِ سَبَبًا لَهَا كَمَا فِي: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: ١٠] ، قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَمَنْصُوبٌ أَمْ مَرْفُوعٌ؟ وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ النَّصْبُ، وَرَجَّحَهُ الزَّجَّاجُ وَالْخَطَّابِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ، وَيُؤَيِّدُهُ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ " نَارًا مِنْ جَهَنَّمَ "، وَرُوِّينَا فِي مُسْنَدِ الْإِسْفَرَايِينِيِّ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: " فِي جَوْفِهِ نَارٌ " مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ جَهَنَّمَ. وَفِي الْفَائِقِ: الْأَكْثَرُ النَّصْبُ، فَالشَّارِبُ هُوَ الْفَاعِلُ، وَالنَّارُ مَفْعُولُهُ. يُقَالُ: جَرْجَرَ فُلَانٌ الْمَاءَ إِذَا جَرَعَهُ جَرْعًا مُتَوَاتِرًا لَهُ صَوْتٌ، فَالْمَعْنَى كَأَنَّمَا يَجْرَعُ نَارَ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَمَجَازٌ ; لِأَنَّ جَهَنَّمَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا يُجَرْجِرُ فِي جَوْفِهِ، وَالْجَرْجَرَةُ صَوْتُ الْبَعِيرِ عِنْدَ الضَّجَرِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ صَوْتَ جَرْعِ الْإِنْسَانِ لِلْمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي الْمَخْصُوصَةِ لِوُقُوعِ النَّهْيِ عَنْهَا، وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا كَجَرْجَرَةِ نَارِ جَهَنَّمَ فِي بَطْنِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَقَدْ ذَكَرَ يُجَرْجِرُ بِالْيَاءِ لِيَفْصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَارٍ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِنَّ الَّذِي) : أَيْ بِزِيَادَةِ إِنَّ قَبْلَ الْمَوْصُولِ (يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ) : أَيْ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ. زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: " إِلَّا أَنْ يَتُوبَ "، وَلَعَلَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ عَلَى الشُّرْبِ وَالْفِضَّةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالذَّهَبَ مَمْنُوعَانِ لِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
قَالَ النَّوَوِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي إِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا مَا حَكَاهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ أَنَّ لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا قَدِيمًا: أَنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا يُحَرَّمُ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ تَحْرِيمُ الشُّرْبِ وَجَوَازُ الْأَكْلِ وَسَائِرُ وُجُوهِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُمَا بَاطِلَانِ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُمَا فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالطَّهَارَةِ وَالْأَكْلِ بِالْمِلْعَقَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالتَّجَمُّرِ بِمِجْمَرَتِهِ، وَالْبَوْلِ فِي الْإِنَاءِ وَسَائِرِ اسْتِعْمَالِهِمَا، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، قَالُوا: وَإِنِ ابْتُلِيَ بِطَعَامٍ فِيهِمَا فَلْيُخْرِجْهُمَا إِلَى إِنَاءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَإِنِ ابْتُلِيَ بِالدُّهْنِ فِي قَارُورَةِ فِضَّةٍ فَلْيَضُمَّهُ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ يَصُبَّهُ فِي الْيُمْنَى وَيَسْتَعْمِلْهُ، وَيَحْرُمُ تَزْيِينُ الْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَغَيْرِهِمَا بِأَوَانِيهِمَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ مِنْ إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَصَى بِالْفِعْلِ وَصَحَّ وُضُوءُهُ وَغَسْلُهُ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْهُ يَعْصِي وَلَا يَكُونُ الْمَأْكُولُ وَالْمَشْرُوبُ حَرَامًا، وَأَمَّا إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِمَا فَلَهُ اسْتِعْمَالُهُ، كَمَا يُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ وَبَيْعُهُمَا صَحِيحٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ عَيْنٌ طَاهِرُةٌ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بَعْدَ الْكَسْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute