أَنَّ جُمْلَةَ " وَلَا يَلْبَسُهُ " حَالٌ، فَيُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَخْتِمُ بِهِ فِي حَالِ عَدَمِ اللُّبْسِ، وَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْبَسُهُ مُطْلَقًا، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ إِظْهَارُ التَّوَاضُعِ وَتَرْكُ الْإِرَاءَةِ وَالْكِبْرِ ; لِأَنَّ الْخَتْمَ فِي حَالِ اللُّبْسِ لَا يَخْلُو عَنْ تَكَبُّرٍ وَخُيَلَاءَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: (وَلَا يَلْبَسُهُ) مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ (يَخْتِمُ بِهِ) ، وَالْمُرَادُ بِهِ لَا يَلْبَسُهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْرَارِ وَالدَّوَامِ، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ضَرُورَةَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ لِلْخَتْمِ بِهِ، كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ. وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَلُبْسُهُ حَالَ الْخَتْمِ بَعِيدٌ لَا يُحْتَاجُ لِنَفْيِهِ، وَقَالَ الْحَنَفِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّدَ خَاتَمُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا يَكُونُ لِلسَّلَاطِينِ وَالْحُكَّامِ، وَكَانَ يَلْبَسُ مِنْهَا بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، وَتَعَقَّبَهُ الْعِصَامُ بِأَنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُتَّخَذُ لِلْحَاجَةِ، فَيَبْعُدُ أَنْ يَتَّخِذَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَعَدِّدًا اهـ. وَسَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ التَّعَدُّدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَرِهَتْ طَائِفَةٌ لُبْسَ الْخَاتَمِ مُطْلَقًا وَهُوَ شَاذٌّ. نَعَمْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ وَاتَّخَذُوا مِثْلَهُ طَرَحَهُ، فَطَرَحُوا خَوَاتِيمَهُمْ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نَدْبِ الْخَاتَمِ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى الْخَتْمِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْبَغَوِيُّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا طَرَحَهُ خَوْفًا عَلَيْهِمْ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَهْمٌ مِنَ الزُّهْرِيِّ رَاوِيهِ، وَأَنَّ مَا لَبِسَهُ يَوْمًا، ثُمَّ أَلْقَاهُ خَاتَمُ ذَهَبٍ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ، أَوْ خَاتَمُ حَدِيدٍ، فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ «أَنَّهُ كَانَ لَهُ خَاتَمُ حَدِيدٍ مَلْوِيٌّ عَلَيْهِ فِضَّةٌ» ، فَلَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي طَرَحَهُ، وَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ وَلَا يَلْبَسُهُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُكْرَهُ إِذَا قُصِدَ بِهِ الزِّينَةُ، وَآخَرُونَ يُكْرَهُ لِغَيْرِ ذِي سُلْطَانٍ لِلنَّهْيِ عَنْهُ بِغَيْرِهِ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، لَكِنْ نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ ضَعَّفَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَانَ إِذَا لَبِسَهُ (جَعَلَ فَصَّهُ) : بِتَثْلِيثِ فَائِهِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَتَشْدِيدُ صَادِهِ مَا يُنْقَشُ فِيهِ اسْمُ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرِهِ، فِي الْقَامُوسِ الْفَصُّ لِلْخَاتَمِ مُثَلَّثَةٌ، وَالْكَسْرُ غَيْرُ لَحْنٍ، وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ وَقَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: هُوَ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْعَامَّةُ تَكْسِرُهَا، وَأَثْبَتُهَا بِضَمِّهِمْ لُغَةً، وَزَادَ بَعْضُهُمُ الضَّمَّ، وَعَلَيْهِ جَرَى ابْنُ الْمَلَكِ فِي الْمُثَلَّثِ. (مِمَّا يَلِي) : أَيْ يَقْرُبُ (بَطْنَ كَفِّهِ) . قَالَ النَّوَوِيُّ: لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنَ الزَّهْوِ وَالْإِعْجَابِ، وَلَمَّا لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ جَازَ جَعْلُ فَصِّفِهِ فِي ظَاهِرِ الْكَفِّ، وَقَدْ عَمِلَ السَّلَفُ بِالْوَجْهَيْنِ. قُلْتُ: لَعَلَّ وَجْهَ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الْمُخَالَفَةِ عَدَمُ بُلُوغِهِمُ الْحَدِيثُ الْمُقْتَضِي لِلْمُتَابَعَةِ، قَالَ الْقَاضِيخَانْ: التَّخَتُّمُ بِالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُبَاحُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَى الْخَتْمِ. قَالَ الْقَاضِي: وَعِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَالتَّرْكُ أَفْضَلُ، وَإِذَا تَخَتَّمَ بِالْفِضَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَصُّ إِلَى بَاطِنِ الْكَفِّ مِنَ الْيُسْرَى. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَلَوِ اتَّخَذَ الرَّجُلُ خَوَاتِمَ كَثِيرَةً لِيَلْبَسَ الْوَاحِدَ مِنْهَا بَعْدَ الْوَاحِدِ جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: فِيهِ وَجْهَانِ: الْإِبَاحَةُ وَعَدَمُهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute