الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْقَرَائِنِ الْمَنْسُوقَةِ عَلَيْهَا، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا الشَّارِعَ يَجْمَعُ فِي النَّهْيِ بَيْنَ مَا هُوَ حَرَامٌ، وَبَيْنَ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَبَيْنَ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِمَعْنًى، وَبَيْنَ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَجْذُومِ الْمُبَايِعِ: " «قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ» " فِي حَدِيثِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوِيدٍ الثَّقَفِيِّ، وَهُوَ مَذْكُورٌ بَعْدُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَجْذُومِ الَّذِي أَخَذَ بِيَدِهِ فَوَضَعَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ: " «كُلْ ثِقَةً بِاللَّهِ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ» " وَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: بَيَّنَ بِالْأَوَّلِ التَّوَقِّيَ مِنْ أَسْبَابِ التَّلَفِ، وَبِالثَّانِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ فِي مُتَارَكَةِ الْأَسْبَابِ وَهُوَ حَالُهُ اهـ. وَهُوَ جَمْعٌ حَسَنٌ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ.
(وَلَا طِيَرَةَ) : نَفْيٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: ٢] عَلَى وَجْهٍ (وَلَا هَامَةَ) : بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَهِيَ اسْمُ طَيْرٍ يَتَشَاءَمُ بِهِ النَّاسُ وَهِيَ الصَّدَى، وَهُوَ طَيْرٌ كَبِيرٌ يَضْعُفُ بَصَرُهُ بِالنَّهَارِ، وَيَطِيرُ بِاللَّيْلِ، وَيُصَوِّتُ وَيَسْكُنُ الْخَرَابَ، وَيُقَالُ لَهُ: بُومٌ، وَقِيلَ: كَوْفٌ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ إِذَا بَلِيَتْ وَعَدِمَتْ تَصِيرُ هَامَةً، وَتَخْرُجُ مِنَ الْقَبْرِ وَتَتَرَدَّدُ وَتَأْتِي بِأَخْبَارِ أَهْلِهِ، وَقِيلَ: كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ رُوحَ الْقَتِيلِ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِثَأْرِهِ تَصِيرُ هَامَةً فَتَقُولُ: اسْقُونِي اسْقُونِي، فَإِنْ أُدْرِكَ بِثَأْرِهِ طَارَتْ، فَأَبْطَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الِاعْتِقَادَ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، قَالَ بَقِيَّةُ: سَأَلْتُ ابْنَ رَاشِدٍ عَنْ قَوْلِهِ: " لَا هَامَةَ " فَقَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: لَيْسَ أَحَدٌ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ إِلَّا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ هَامَةٌ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ هِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: بِتَشْدِيدِهَا وَفِيهَا تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَشَاءَمُ بِهَا وَهِيَ مِنْ طَيْرِ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: هِيَ الْبُومَةُ. قَالُوا: كَانَتْ إِذَا سَقَطَتْ عَلَى دَارِ أَحَدِهِمْ يَرَاهَا نَاعِيَةً لَهُ نَفْسَهُ أَوْ بَعْضَ أَهْلِهِ، وَهُوَ تَفْسِيرُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَثَانِيهُمَا: كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ عِظَامَ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ رُوحُهُ تَنْقَلِبُ هَامَةً تَطِيرُ، وَهَذَا تَفْسِيرُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّوْعَيْنِ مَعًا، فَإِنَّهُمَا بَاطِلَانِ. (وَلَا صَفَرَ) قَالَ شَارِحٌ: كَانَتِ الْعَرَبُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ حَيَّةٌ فِي الْبَطْنِ، وَاللَّدْغُ الَّذِي يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ عِنْدَ جُوعِهِ مِنْ عَضِّهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، قَالَ بَقَيَّةُ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ رَاشِدٍ عَنْهُ؟ قَالَ: كَانُوا يَتَشَاءَمُونَ بِدُخُولِ صَفَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا صَفَرَ» " قَالَ: وَسَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: هُوَ وَجْهٌ يَأْخُذُ فِي الْبَطْنِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُعْدِي. قَالَ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحِلُّونَ صَفَرًا عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا صَفَرَ» ".
قَالَ النَّوَوِيُّ، قِيلَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ أَنَّ فِي الْبَطْنِ دَابَّةً تَهِيجُ عِنْدَ الْجُوعِ، وَرُبَّمَا قَتَلَتْ صَاحِبَهَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَرَاهَا أَعْدَى مِنَ الْحَرْبِ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَالَ مُطَرِّفٌ، وَابْنُ عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَاوِي الْحَدِيثِ، فَتَعَيَّنَ اعْتِمَادُهُ. قُلْتُ: الْأَظْهَرُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعَانِي، فَإِنَّهَا كُلَّهَا بَاطِلَةٌ كَمَا سَبَقَ نَظِيرُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ شَهْرَ صَفَرَ تَكْثُرُ فِيهِ الدَّوَاهِي وَالْفِتَنُ. (وَفِرَّ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ: اشْرُدْ وَبَالِغْ فِي الِاجْتِنَابِ وَالِاحْتِرَازِ (مِنَ الْمَجْذُومِ) : أَيِ الَّذِي بِهِ جُذَامٌ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، وَهُوَ تَشَقُّقُ الْجِلْدِ، وَتَقَطُّعُ اللَّحْمِ وَتَسَاقُطُهُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ جُذِمَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ، (كَمَا تَفِرُّ مِنَ الْأَسَدِ) . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا رُخْصَةٌ لِلضُّعَفَاءِ، وَتَرْكُهُ جَائِزٌ لِلْأَقْوِيَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْجُذَامَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ فَيُعْدِي بِإِذْنِ اللَّهِ، فَيَحْصُلُ مِنْهُ ضَرَرٌ، وَمَعْنَى لَا عَدْوَى نَفْيُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمَرَضَ يُعْدِي بِطَبْعِهِ لَا بِفِعْلِهِ سُبْحَانَهُ، وَلَعَلَّ تَخْصِيصَ الْمَجْذُومِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنَ الْعِلَلِ الْمُعْدِيَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «إِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنَ الدَّاءِ يُعْدِي فَهُوَ هَذَا " يَعْنِي الْجُذَامَ» . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : أَيِ الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ، وَإِلَّا فَقَوْلَهُ: ( «لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ» "، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute