٤٥٨٤ - وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ " قَالَهُ ثَلَاثًا " وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ: كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ يَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» . هَذَا عِنْدِي قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ.
ــ
٤٥٨٤ - (وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ) : أَيْ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الطِّيَرَةَ تَجْلِبُ لَهُمْ نَفْعًا أَوْ تَدْفَعُ عَنْهُمْ ضُرًّا، فَإِذَا عَمِلُوا بِمُوجِبِهَا فَكَأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ فِي ذَلِكَ وَيُسَمَّى شِرْكًا خَفِيًّا. وَقَالَ شَارِحٌ: يَعْنِي مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ شَيْئًا سِوَى اللَّهِ يَنْفَعُ أَوْ يَضُرُّ بِالِاسْتِقْلَالِ فَقَدْ أَشْرَكَ أَيْ شِرْكًا جَلِيًّا. وَقَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا سَمَّاهَا شِرْكًا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مَا يَتَشَاءَمُونَ بِهِ سَبَبًا مُؤَثِّرًا فِي حُصُولِ الْمَكْرُوهِ، وَمُلَاحَظَةُ الْأَسْبَابِ فِي الْجُمْلَةِ شِرْكٌ خَفِيٌّ، فَكَيْفَ إِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا جَهَالَةٌ وَسُوءُ اعْتِقَادٍ. (قَالَهُ ثَلَاثًا) مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهَا (وَمَا مِنَّا) : أَيْ أَحَدٌ (إِلَّا) . أَيْ إِلَّا مَنْ يَخْطُرُ لَهُ مِنْ جِهَةِ الطِّيَرَةِ شَيْءٌ مَا لِتَعَوُّدِ النُّفُوسِ بِهَا، فَحَذَفَ الْمُسْتَثْنَى كَرَاهَةَ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ إِلَّا مَنْ يَعْرِضُ لَهُ الْوَهْمُ مِنْ قِبَلِ الطِّيَرَةِ، وَكَرِهَ أَنْ يُتِمَّ كَلَامَهُ ذَلِكَ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْحَالَةِ الْمَكْرُوهَةِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَدَبِ الْكَلَامِ يَكْتَفِي دُونَ الْمَكْرُوهِ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ فَلَا يَضْرِبُ لِنَفْسِهِ مَثَلَ السَّوْءِ. (وَلَكِنَّ اللَّهَ) : الرِّوَايَةُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَنَصْبِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهُ وَرَفْعُهَا (يُذْهِبُهُ) : بِضَمِّ الْيَاءِ مِنَ الْإِذْهَابِ عَلَى مَا فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ أَيْ يُزِيلُ ذَلِكَ الْوَهْمَ الْمَكْرُوهَ. (بِالتَّوَكُّلِ) : أَيْ بِسَبَبِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالْإِسْنَادِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.
وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْخَطْرَةَ لَيْسَ بِهَا عِبْرَةٌ، فَإِنْ وَقَعَتْ غَفْلَةً لَا بُدَّ مِنْ رَجْعَةٍ وَأَوْبَةٍ مِنْ حَوْبَةٍ، كَمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالطَّبَرَانِيِّ وَلَفْظُهُ: " «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَكَفَّارَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ. وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ» ". وَسَيَأْتِي فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ مَا يَنْصُرُهُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْمَبْنَى وَغَفْلَتِهِ عَنِ الْمَعْنَى، فَقَالَ فِي قَوْلِهِ: " يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ " جَاءَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا، وَعَلَى الثَّانِي اجْتَمَعَ فِيهِ حَرْفَا التَّعْدِيَةِ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِذْهَابِ مَا يَخْطُرُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ لَمَّةِ الْمَلَكِ الْمُذْهِبَةِ لِلَمَّةِ الشَّيْطَانِ اهـ.
وَفِيهِ أَبْحَاثٌ ثَلَاثَةٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَوْلُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِعْلًا لَازِمًا، وَقَدِ اجْتَمَعَتِ النُّسَخُ عَلَى وُجُودِ الضَّمِيرِ الْبَارِزِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ يَخْتَلُّ الْمَعْنَى، إِذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُ. وَفَسَادُهُ لَا يَخْفَى، وَأَمَّا الثَّانِي: فَقَوْلُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ مَعَ كَسْرِ الْهَاءِ صَحِيحٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُ اجْتَمَعَ فِيهِ حَرْفَا التَّعْدِيَةِ لِلتَّأْكِيدِ غَلَطٌ صَرِيحٌ، فَإِنَّ الْبَاءَ لِلسَّبَبِيَّةِ لَا لِلتَّعْدِيَةِ، وَإِلَّا لَفَسَدَ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَآلُ الْكَلَامِ لَكِنَّ اللَّهَ يُزِيلُ التَّوَكُّلَ. وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ الِاسْتِدْرَاكِ، فَإِنَّهُ وَهْمٌ بَاهِرٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَقَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْإِذْهَابِ مَا يَخْطُرُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ لَمَّةِ الْمَلَكِ الْمُذْهِبَةِ لِلَمَّةِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهُ مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ الْحَمْلِ وَكَوْنِهِ مُنَاقِضًا لِكَلَامِهِ السَّابِقِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ أَنَّ التَّوَكُّلَ هُوَ الْمُذْهَبُ بِسَبَبِ الْهَمْزَةِ، وَبَاءُ التَّعْدِيَةِ مَقْلُوبُ الْمَعْنَى هُنَا، لِأَنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالضَّمِيرِ الْبَارِزِ أَوْ بِالْمُذْهَبِ مَا يَخْطُرُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ الْمُذْهِبَةِ لِلَمَّةِ الْمَلَكِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ كَمَا تَحَقَّقَ بَحْثُهُمَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ) : أَيِ الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ مَرْفُوعًا، لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ لِلْمُحْدَثِينَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute