للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. قُلْتُ: وَمَا أَظُنُّ أَنَّ قَوْلَ مَشَايِخِ بُخَارَى يَكُونُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَيَتَحَصَّلُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَنَّ رُؤْيَاهُ عَلَى وَجْهِ مَا رَآهُ بَاطِلَةٌ ; لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلِهَا لَا حَقَّةَ وَلَا حَقِيقَةَ لِشَأْنِهَا، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِبُطْلَانِهَا مُطْلَقًا، فَإِذَا قَالَ الشَّخْصُ: رَأَيْتُ مَنَامًا وَيَكُونُ بَاطِلًا فَمَا وَجْهُ تَكْفِيرِهِ، مَعَ أَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ صَادِقٌ فِي رُؤْيَاهُ، وَلَمْ يَكْفُرْ مَنْ يَكْذِبُ وَيَفْتَرِي وَيَنْسُبُ إِلَى عَيْنِهِ مَا لَمْ تَرَهُ. هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «رَأَيْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ» "، وَذَكَرْنَا تَوْجِيهَاتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا حَالَ الْيَقَظَةِ، وَمِنْ جُمْلَةِ تَأْوِيلَاتِهِ أَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى رُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ، فَإِنَّهُ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: «احْتَبَسَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الْغَدْوَةِ، حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَطْلُعُ، فَلَمَّا صَلَّى الْغَدْوَةَ، قَالَ: " إِنِّي صَلَّيْتُ اللَّيْلَةَ مَا قُضِيَ لِي وَوَضَعْتُ جَنْبِي فِي الْمَسْجِدِ فَأَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ» ". قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ مِنْ أَئِمَّتِنَا: فَعَلَى هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِشْكَالٌ إِذِ الرَّائِي قَدْ يَرَى غَيْرَ الْمُتَشَكَّلِ مُتَشَكَّلًا وَالْمُتَشَكَّلَ بِغَيْرِ شَكْلِهِ، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ خَلَلًا فِي الرُّؤْيَا، وَلَا فِي الرَّائِي، بَلْ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْأَسْبَابُ لَمَا افْتَقَرَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ إِلَى تَعْبِيرٍ اهـ. كَلَامُهُ. وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ قَالَ: وَتَرْكُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحْسَنُ. قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، بَلِ التَّحْقِيقُ وَالتَّثْبِيتُ فِيهَا أَفْضَلُ، بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ لِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ، فَيُحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلِهَا وَتَبْيِينِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ الْمُفْتِي فِي تَكْفِيرِ مُسْلِمٍ، وَلَا مُسْلِمٌ فِي كُفْرٍ مِنِ اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُ الْمَازِرِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَجَّحَ قَوْلُ الْبَاقِلَّانِيِّ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَثْبَتَ الرِّوَايَاتِ هِيَ فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ مَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقَعَ الْجَزَاءُ مُسَبَّبًا مِنَ الشَّرْطِ، وَيَتَرَتَّبَ عَلَى الْعِلَلِ الْمُعَلَّلَةِ، فَالْمَعْنَى: مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ فَلْيَسْتَبْشِرْ، وَلِيَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ رَأَى الرُّؤْيَا الْحَقَّ الَّتِي هِيَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ الْمُبَشِّرَاتُ لَا الْبَاطِلُ، الَّذِي هُوَ الْحُلْمُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبَاطِلِ الَّذِي هُوَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَمْ يَتَمَثَّلْ بِي، وَكَيْفَ لَا تَكُونُ مُبَشِّرَاتٍ وَهُوَ الْبَشِيرُ النَّذِيرُ وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ، وَهُوَ الرَّحْمَةُ الْمُهْدَاةُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: ١٠٧] . وَعَلَى هَذَا أَيْضًا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، فَقَدْ رَآنِي الْحَقَّ، أَيْ رُؤْيَةَ الْحَقِّ لَا الْبَاطِلِ، وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ إِذَا اتَّحَدَا دَلَّ عَلَى الْكَمَالِ وَالْغَايَةِ، أَيْ: فَقَدْ رَآنِي رُؤْيَا لَيْسَ بَعْدَهَا كَقَوْلِهِ: " «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ، فَهَجَرَتُهُ إِلَى اللَّهِ» "، وَلَا كَمَالَ أَكْمَلُ مِنَ الْحَقِّ كَمَا لَا نَقْصَ أَنْقَصُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْبَاطِلُ هُوَ الْكَذِبُ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» ، وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَكْذِبُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تِلْكَ التَّكَلُّفَاتِ وَالتَّمَحُّلَاتِ، وَلَا يَكْشِفُ الْأَسْتَارَ عَنْ تِلْكَ الْأَسْرَارِ إِلَّا مَنْ تَدَرَّبَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي، وَاعْتَلَى شَامِخَ الْبَيَانِ، وَعَرَفَ كَيْفَ يُؤَلِّفُ الْكَلَامَ وَيُصَنِّفُ، وَيُرَتِّبُ النِّظَامَ وَيَرْصُفُ.

قُلْتُ: هَذَا خُطْبَةٌ بَلِيغَةٌ عَظِيمَةٌ فِيهَا مُبَالَغَةٌ جَسِيمَةٌ وَسِيمَةٌ، لَكِنْ لَا نَعْرِفُ مَا الْمُرَادُ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ وَالتَّمَحُّلَاتِ، وَسَائِرُ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْأَسْتَارِ عَنِ الْأَسْرَارِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَإِنَّهُ مَا سَبَقَ إِلَّا كَلَامُ السَّابِقِينَ فِي مَيْدَانِ الْبَلَاغَةِ، وَالْمَصْدَرَيْنِ فِي دِيوَانِ الْفَصَاحَةِ مِنَ الشَّارِحِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْعَلَمُ الْأَكْمَلُ الشَّيْخُ التُّورِبِشْتِيُّ، وَمِنْ شَارِحِ مُسْلِمٍ، وَهُوَ الْإِمَامُ مُحْيِي الدِّينِ النَّوَوِيُّ الْمُشْتَمِلُ كَلَامُهُ عَلَى نَقْلِ مَقُولِ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْمَارِزِيِّ وَكَلَامِ الْقَاضِي عِيَاضٍ، وَهُمْ عُمْدَةُ الْمُحَقِّقِينَ، وَزُبْدَةُ الْمُدَقِّقِينَ، ثُمَّ خَتَمَ الْمَبْحَثَ بِقَوْلِ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ، وَالْقُشَيْرِيُّ مُقْتَدَى الْأَنَامِ، فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَنْصَفَ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ قَدْرَهُ وَلَمْ يَتَعَسَّفْ، وَمَعَ هَذَا نَقُولُ: التَّسْلِيمُ أَسْلَمُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>