للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا أُحِبُّ الْقَيْدَ ; لِأَنَّهُ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ كَفٌّ مِنَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ وَأَنْوَاعِ الْبَاطِلِ. قُلْتُ: وَفِيهِ إِيمَاءٌ أَيْضًا إِلَى اخْتِيَارِ الْخَلْوَةِ وَتَرْكِ الْجَلْوَةِ، كَمَا هُوَ شَأْنُ أَرْبَابِ الْعُزْلَةِ مِنْ تَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْخُرُوجِ بِالْأَقْدَامِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِمْ: الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ. قَالَ: وَأَبْغَضُ الْغُلَّ ; لِأَنَّ مَوْضِعَهُ الْعُنُقُ، وَهُوَ صِفَةُ أَهْلِ النَّارِ قَالَ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: ٧١] ، قُلْتُ: وَفِيهِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى أَنَّ الرَّقَبَةَ مُسْتَثْقَلَةٌ بِالذِّمَّةِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ، فَهَذَا الِاسْتِثْقَالُ فِي الدُّنْيَا يُورِثُ الْأَغْلَالَ فِي الْأُخْرَى، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا قَالَ: وَإِنَّمَا يَكُونُ الْغُلُّ فِي النَّوْمِ ; لِأَنَّ الْغُلَّ تَقْيِيدُ الْعُنُقِ وَتَثْقِيلُهُ بِتَحَمُّلِ الدَّيْنِ أَوِ الْمَظَالِمِ، أَوْ كَوْنُهُ مَحْكُومًا وَرَقِيقًا مُتَعَلِّقًا بِشَيْءٍ، أَوْ لِأَنَّهُ حَقُّ الْكُفَّارِ فِي النَّارِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: وَأَمَّا أَهْلُ التَّعْبِيرِ فَقَالُوا: إِذَا رَأَى الْقَيْدَ فِي الرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ مَشْهَدِ خَيْرٍ، أَوْ عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ، فَهُوَ دَلِيلٌ لِثَبَاتِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ رَآهُ مَرِيضٌ، أَوْ مَسْجُونٌ، أَوْ مُسَافِرٌ أَوْ مَكْرُوبٌ، كَانَ دَلِيلًا عَلَى ثَبَاتِهِ فِيهِ. قُلْتُ: بَلْ هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى صَبْرِهِ وَثَبَاتِ قَدَمِهِ بِعَدَمِ الْجَزَعِ وَالْفَزَعِ وَالتَّرَدُّدِ إِلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، وَبِالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ. قَالَ: وَإِذَا انْضَمَّ مَعَهُ الْغُلُّ دَلَّ عَلَى زِيَادَةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ. قُلْتُ: بَلْ لَهُ إِشَارَةٌ إِلَى وُجُوبِ تَخْلِيصِ مَا فِي رَقَبَتِهِ مِنْ قَضَاءِ الصَّلَاةِ، وَالتَّوْبَةِ عَنِ السَّيِّئَاتِ، وَأَدَاءِ دُيُونِ الْعِبَادِ، وَاسْتِحْلَالِ مَا صَدَرَ مِنْهُ فِي الْبِلَادِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّؤْيَا مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ الرَّائِي، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَالِكًا مِنْ مَسَالِكِ طَرِيقِ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَكُونُ سَائِرًا فِي مَسَائِرِ صِرَاطِ الْعُقْبَى، فَلِكُلٍّ تَأْوِيلٌ يَلِيقُ بِهِ وَيُنَاسِبُ بِحَالِهِ وَمَقَامِهِ، وَهَذَا أَمْرٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَلِذَا لَمْ يَجْعَلِ السَّلَفُ فِيهِ تَأْلِيفًا مُسْتَقِلًّا جَامِعًا شَامِلًا كَافِلًا لِأَنْوَاعِ الرُّؤْيَا، وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي بَعْضِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنَ الْقَضَايَا، وَلِذَا لَمْ تَلْقَ مُعَبِّرَيْنِ يَكُونَانِ فِي تَعْبِيرِهِمَا لِشَيْءٍ مُتَّفِقَيْنِ. قَالَ: وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْيَدَانِ مَغْلُولَتَيْنِ فِي الْعُنُقِ، فَهُوَ حَسَنٌ وَدَلِيلٌ عَلَى فَكِّهِمَا مِنَ الشَّرِّ. قُلْتُ: وَمَا أَبْعَدَ هَذَا التَّأْوِيلَ. نَعَمْ قَوْلُهُ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى الْبُخْلِ وَهُوَ الصَّوَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: ٢٩] ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْإِمْسَاكَ الْمَالِيَّ وَالْبُخْلَ الْفَعَّالِيَّ، فَقَوْلُهُ: وَقَدْ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ مَا نَوَاهُ مِنَ الْأَفْعَالِ مُسْتَدْرَكٌ فِي الْمَآلِ، وَلَهُ وَجْهٌ آخَرُ أَنْ يُؤَوَّلَ لَهُ بِالْعُقُوبَةِ إِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: ٦٤] ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَمَّا سَيَقَعُ لَهُمْ مِنَ الْأَغْلَالِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ: وَكَانَ يَكْرَهُ الْغُلَّ ; لِأَنَّهُ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَتِ الْيَدَانِ مَعَهُ أَوْ بِدُونِهِ، بَلْ كَوْنُهُمَا مَعَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ كَرَاهَةً، فَكَيْفَ يَكُونُ حَسَنًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>