الْفَصْلُ الثَّالِثُ
٤٧٤٩ - عَنْ قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: هَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْجَبَلِ. وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ: أَدْرَكْتُهُمْ يَشْتَدُّونَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ، وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ كَانُوا رُهْبَانًا» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".
ــ
٤٧٤٩ - (عَنْ قَتَادَةَ) : مِنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ (قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: هَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضْحَكُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالْإِيمَانُ) أَيْ: نَعَمْ يَضْحَكُونَ، وَالْحَالُ أَنَّ عَظْمَةَ الْإِيمَانِ وَجَلَالَتَهُ (فِي قُلُوبِهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْجَبَلِ) : فَكَانُوا فِي غَايَةٍ مِنَ الْوَقَارِ وَالثَّبَاتِ عَلَى قَوَاعِدِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَفِي نِهَايَةٍ مِنْ مُرَاعَاةِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الرَّضِيَّةِ؛ حَيْثُ لَمْ يَتَجَاوَزُوا فِي حَالِ الضَّحِكِ وَغَيْرِهِ عَنْ دَائِرَةِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ بَابِ الرُّجُوعِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ: نَعَمْ كَانُوا يَضْحَكُونَ، لَكِنْ لَا يَتَجَاوَزُونَ إِلَى مَا يُمِيتُ قُلُوبَهُمْ وَيَتَزَلْزَلُ بِهِ إِيمَانُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ الضَّحِكِ، كَمَا وَرَدَ: إِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقُلُوبَ. (وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ) : تَابِعِيٌّ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَائِهِ (أَدْرَكْتُهُمْ) أَيْ: كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ (يَشْتَدُّونَ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ الشَّدِّ، وَهُوَ الْعَدْوُ أَيْ: يَعْدُونَ وَيَجْرُونَ (بَيْنَ الْأَغْرَاضِ) : جَمْعُ الْغَرَضِ، بِفُتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الْهَدَفُ زِنَةً وَمَعْنًى، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ هُنَا مَا فَوْقَ الْوَاحِدِ لِيُوَافِقَ مَا فِي النِّهَايَةِ فِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ: تَخْتَلِفُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ وَأَنْتَ شَيْخٌ كَبِيرٌ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَيَضْحَكُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) أَيْ: مُتَوَجِّهًا وَمُلْتَفِتًا إِلَيْهِ لَا مُعْرِضًا وَمَائِلًا عَنْهُ، أَوْ إِلَى بِمَعْنَى " مَعَ "، كَمَا نُقِلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: ٢] ، وَفِي قَوْلِهِ: {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: ٦] ، أَوْ ضَمَّنَ يَضْحَكُ مَعْنَى يَنْبَسِطُ، وَأَغْرَبَ الطِّيبِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَضَمَّنَ ضَحِكَ بِمَعْنَى السُّخْرِيَةِ وَعَدَّاهُ بِإِلَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: ١٤] ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ السُّخْرِيَةَ يَتَعَدَّى بِمِنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: ٧٩] ، نَعَمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين: ٢٩] ، ضَمَّنَ الضَّحِكَ مَعْنَى السُّخْرِيَةِ، وَأَمَّا ثَانِيًا - فَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} [البقرة: ٧٦] ، لَيْسَ فِيهِ تَضْمِينُ السُّخْرِيَةِ، بَلْ وَلَا يَصِحُّ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى، بَلْ فِيهِ تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا أَنَّ إِلَى بِمَعْنَى: مَعَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: ٥٢] ، وَثَانِيهُمَا تَضْمِينُ إِلَى مَعْنَى الِانْضِمَامِ أَوِ الِانْتِهَاءِ، هَذَا وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا كَانَ حَالَهُمْ فِي النَّاسِ وَفِي مَجَالِسِ أَصْحَابِهِمُ الْأَبْرَارِ (فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ) أَيْ: وُجِدَ، أَوْ كَانَ الْوَقْتُ زَمَانَ اللَّيْلِ، وَمَقَامَ الْوِحْدَةِ وَمَرَتَبَةَ الْخِلْوَةِ بَعْدَ مَنْزِلَةِ الْجِلْوَةِ (كَانُوا رُهْبَانًا) : بِضَمِّ الرَّاءِ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرُكْبَانٍ وَرَاكِبٍ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَيُجْمَعُ عَلَى رَهَّابِينَ، فَفِي النِّهَايَةِ: الرُّهْبَانُ مَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا وَزَهِدَ فِيهَا وَتَخَلَّى عَنْهَا، وَعُزِلَ عَنْ أَهْلِهَا، وَتَعَمَّدَ مَشَاقَّهَا اهـ. فَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: ٣٧] ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ إِخْبَارًا عَنْهُمْ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة: ١٦] ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ - وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: ١٧ - ١٨] بَلْ أَقُولُ: إِنَّهُمْ كَانُوا حَالَ الضَّحِكِ ظَاهِرًا فِي عَيْنِ الْبُكَاءِ بَاطِنًا، فَإِنَّهُمْ فَرْشِيُّونَ بِأَشْبَاحِهِمْ، عَرْشِيُّونَ بِأَرْوَاحِهِمْ، كَائِنُونَ مَعَ الْخَلْقِ بِأَبْدَانِهِمْ، بَائِنُونَ عَنْهُمْ مَعَ الْحَقِّ بِقُلُوبِهِمْ وَجَنَانِهِمْ، قَرِيبُونَ فِي الظَّاهِرِ مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، غَرِيبُونَ عَنِ الْخَلْقِ فِي الْبَاطِنِ عَلَى قَدَمِ التَّجْرِيدِ وَالتَّفْرِيدِ، مُلُوكٌ فِي سُلُوكِ لِبَاسِ الْأَطْمَارِ، وَأَغْنِيَاءٌ مَعَ كَمَالِ فَقْرِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَفَعَنَا بِبَرَكَةِ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ. (رَوَاهُ) أَيِ: الْبَغَوِيُّ فِي (شَرْحِ السُّنَّةِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute