٣٧٠ - وَعَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ يَسْتَهْزِئُ: إِنِّي لَأَرَى صَاحِبَكُمْ يُعَلِّمُكُمْ حَتَّى الْخَرَاءَةَ. قُلْتُ: (أَجَلْ أَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَلَا نَسْتَنْجِيَ بِأَيْمَانِنَا وَلَا نَكْتَفِيَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ لَيْسَ فِيهَا رَجِيعٌ وَلَا عَظْمٌ» ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ.
ــ
٣٧٠ - (وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ) : أَيْ سَلْمَانُ (قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ يَسْتَهْزِئُ) : أَيْ بِسَلْمَانَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ (إِنِّي لَأَرَى صَاحِبَكُمْ) : يَعْنِي النَّبِيَّ (يُعَلِّمُكُمْ) : أَيْ كُلَّ شَيْءٍ (حَتَّى الْخَرَاةَ) : أَيْ: أَدَبَهَا وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ مَقْصُورًا عَلَى الْأَكْثَرِ وَقِيلَ مَمْدُودًا، وَقِيلَ بِالْمَدِّ مَعَ كَسْرِ الْخَاءِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الْخَرَاءَةُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ اسْمٌ لِهَيْئَةِ الْحَدَثِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْحَدَثِ فَبِحَذْفِ التَّاءِ وَبِالْمَدِّ مَعَ فَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا نَقَلَهُ الْأَبْهَرِيُّ. وَقَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: الْخِرَاءَةُ، مَكْسُورَةُ الْخَاءِ مَمْدُودَةٌ التَّخَلِّي وَالْقُعُودُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ يَفْتَحُونَ الْخَاءَ وَيَقْصُرُونَ الرَّاءَ كَذَا فِي الطِّيبِيِّ نَقْلًا عَنِ الْخَطَّابِيِّ ثُمَّ قَالَ: قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هِيَ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالْكَسْرِ اسْمٌ (قُلْتُ: أَجَلْ!) أَيْ: نَعَمْ (أَمَرَنَا) أَيِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي آدَابِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ (أَنْ لَا نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ) أَيْ تَعْظِيمًا لِلْكَعْبَةِ لِكَوْنِهَا قِبْلَةً لَنَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ وَلَا نَسْتَدْبِرُهَا كَمَا مَرَّ وَلَعَلَّهُ آثَرَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِهِ أَكْمَلُ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ أَفْحَشُ مِنَ الِاسْتِدْبَارِ اهـ.
وَتَقَدَّمَ مَا فِي كَلَامِهِ: وَيُمْكِنُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ وَقَعَ أَوَّلًا، عَنِ الِاسْتِدْبَارِ أَيْضًا أَوْ خَصَّهُ لِكَوْنِ الِامْتِنَاعِ عَنِ الِاسْتِقْبَالِ أَدَلَّ عَلَى تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى أَحَدِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ الِاسْتِدْبَارَ، وَلَوْلَا مَخَافَةُ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ لَقُلْتُ: يَجُوزُ الِاسْتِدْبَارُ فِي الْبُنْيَانِ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ فِيهِ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ رَأَيْتُ فِي شَرْحِ شِرْعَةِ الْإِسْلَامِ، عِنْدَ قَوْلِ الْمَاتِنِ: وَلَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ، فَإِنَّ اسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ بِالْفَرْجِ حَالَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَحَالَ الِاسْتِنْجَاءِ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا الِاسْتِدْبَارُ فِي رِوَايَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَلَا يُكْرَهُ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ فَرْجَ الْمُسْتَدْبِرِ لَا يَكُونُ مُوَازِيًا لِلْقِبْلَةِ بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبِلِ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ الِاسْتِدْبَارِ إِذَا كَانَ ذَيْلُهُ سَاقِطًا لَا مَرْفُوعًا. كَذَا فِي شَرْحِ النُّقَايَةِ وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَهْيِ الِاسْتِدْبَارِ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ اهـ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ ذَاكِرًا لِلْقِبْلَةِ، وَأَمَّا إِذَا غَفَلَ فَلَا بَأْسَ بِهِ. ( «وَلَا نَسْتَنْجِيَ بِأَيْمَانِنَا» ) : أَيْ: تَكْرِيمًا لَهَا لِأَنَّهَا آلَةٌ لِأَكْلِنَا ( «وَلَا نَكْتَفِيَ بِدُونِ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» ) : تَنْظِيفًا بَلِيغًا. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: فِيهِ تَصْرِيحٌ بِمَذْهَبِنَا أَنَّهَا تَجِبُ وَإِنْ أَنْقَى بِدُونِهَا. قُلْتُ: التَّصْرِيحُ غَيْرُ صَرِيحٍ، وَفِي الظُّهُورِ مَحَلُّ بَحْثٍ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ إِذِ الْإِنْقَاءُ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الثَّلَاثِ غَالِبًا، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ: ( «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ» (لَيْسَ فِيهَا) أَيِ الْأَحْجَارُ (رَجِيعٌ) أَيْ رَوْثٌ لِنَجَاسَتِهِ (وَلَا عَظْمٌ) : لِمَلَاسَتِهِ أَوْ لِكَوْنِهِمَا زَادَ الْجِنِّ، وَالْجُمْلَةُ صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِأَحْجَارِ مُزِيلَةٌ لِتَوَهُّمِ أَنَّهَا مَجَازٌ، أَوْ وَارِدَةٌ عَلَى التَّغْلِيبِ وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ وَأَمَرَنَا بِالثَّلَاثَةِ الْأَحْجَارِ الَّتِي أَوْجَبَهَا عَلَيْنَا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهَا رَجِيعٌ يُوهِمُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مُصَدَّرَةٌ بِالْوَاوِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِقْصَاءٌ لِلْإِرْشَادِ وَمُبَالَغَةٌ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: جَوَابُ سَلْمَانَ مِنْ بَابِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَمَّا اسْتَهْزَأَ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُهَدِّدَ أَوْ يَسْكُتَ عَنْ جَوَابِهِ، لَكِنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا الْتَفَتَ إِلَى مَا قَالَ وَمَا فَعَلَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَأَخْرَجَ الْجَوَابَ مَخْرَجَ الْمُرْشِدِ الَّذِي يُلَقِّنُ السَّائِلَ الْمُجِدَّ يَعْنِي: لَيْسَ هَذَا مَكَانُ الِاسْتِهْزَاءِ بَلْ هُوَ جَدٌّ وَحَقٌّ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تَتْرُكَ الْعِنَادَ وَتَلْزَمَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ وَالْمَنْهَجَ الْقَوِيمَ بِتَطْهِيرِ بَاطِنِكَ وَظَاهِرِكَ مِنَ الْأَرْجَاسِ وَالْأَنْجَاسِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَحْمَدُ، وَاللَّفْظُ لَهُ) أَيْ لِأَحْمَدَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute