للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٤٩٥٩ - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا ". وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

٤٩٥٩ - (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ» ) ، بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مِنَ الْخِذْلَانِ، وَهُوَ تَرْكُ النُّصْرَةِ وَالْإِعَانَةِ (وَلَا يَحْقِرُهُ) ، بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ: لَا يَحْتَقِرُهُ بِذِكْرِ الْمَعَايِبِ وَتَنَابُزِ الْأَلْقَابِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ إِذَا رَآهُ رَثَّ الْحَالِ، أَوْ ذَا عَاهَةٍ فِي بَدَنِهِ أَوْ غَيْرَ لَائِقٍ فِي مُحَادَثَتِهِ، فَلَعَلَّهُ أَخْلَصُ ضَمِيرًا وَأَتْقَى قَلْبًا مِمَّنْ هُوَ عَلَى ضِدِّ صِفَتِهِ فَيَظْلِمُ نَفْسَهُ بِتَحْقِيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللَّهُ (التَّقْوَى هَهُنَا) وَقَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي لَا يَجُوزُ تَحْقِيرُ الْمُتَّقِي مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَالتَّقْوَى مَحَلُّهُ الْقَلْبُ، وَمَا كَانَ مَحَلُّهُ الْقَلْبَ يَكُونُ مَخْفِيًّا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَإِذَا كَانَ مَخْفِيًّا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِعَدَمِ تَقْوَى مُسْلِمٍ حَتَّى يُحَقِّرَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مَحَلُّ التَّقْوَى هُوَ الْقَلْبُ، فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ التَّقْوَى فَلَا يُحَقِّرُ مُسْلِمًا ; لِأَنَّ الْمُتَّقِيَ لَا يُحَقِّرُ الْمُسْلِمَ.

قَالَ الطِّيبِيُّ: وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَوْجَهُ وَالنَّظْمُ لَهُ أَدْعَى ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا شَبَّهَ الْمُسْلِمَ بِالْأَخِ لِيُنَبِّهَ عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَأَنْ لَا يَرَى أَحَدٌ لِنَفْسِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا وَمَزِيَّةً، وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَتَحْقِيرُهُ إِيَّاهُ مِمَّا يُنَافِي هَذِهِ الْحَالَةَ وَيَنْشَأُ مِنْهُ قَطْعُ وُصْلَةِ الْأُخُوَّةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا أَنْ تُوصَلَ، وَمُرَاعَاةُ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ أَمْرٌ صَعْبٌ ; لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ السُّلْطَانِ وَأَدْنَى الْعَوَامِّ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَبَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَالْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ إِلَّا مَنِ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلتَّقْوَى وَأَخْلَصَهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ، وَنَحْوِهَا إِخْلَاصَ الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ مِنْ خُبْثِهِ وَنَقَّاهُ مِنْهَا، فَيُؤْثِرُ لِذَلِكَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُتَابَعَةِ الْهَوَى، كَذَلِكَ جَاءَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «التَّقْوَى هَهُنَا " (وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» ) مُعْتَرِضًا بَيْنَ قَوْلِهِ: وَيَحْقِرُهُ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ( «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» ) ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُتَضَمِّنٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الِاحْتِقَارِ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ أَنَّ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْكَلَامِ مَوْقِعُ التَّأْكِيدِ. وَقَوْلُهُ: ( «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» ) هُوَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ، وَالْمَقْصُودُ الْأَوْلَى، وَالسَّابِقُ كَالتَّمْهِيدِ وَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمَ وَعِرْضَهُ جُزْءًا مِنْهُ تَلْوِيحًا إِلَى مَعْنَى مَا رُوِيَ: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» ، وَالْمَالُ يُبْذَلُ لِلْعِرْضِ. قَالَ:

أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لَا أُدَنِّسُهُ ... لَا بَارَكَ اللَّهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ

وَلِمَا أَنَّ التَّقْوَى تَشُدُّ مِنْ عَقْدِ هَذِهِ الْأُخُوَّةِ وَتَسْتَوْثِقُ مِنْ عُرَاهَا ; قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات: ١٠] يَعْنِي: إِنَّكُمْ إِنِ اتَّقَيْتُمْ لَمْ تَحْمِلْكُمُ التَّقْوَى إِلَّا عَلَى التَّوَاصُلِ وَالِائْتِلَافِ وَالْمُسَارَعَةِ إِلَى إِمَاطَةِ مَا يَفْرُطُ مِنْهُ، وَأَنَّ مُسْتَقَرَّ التَّقْوَى وَمَكَانَهَا الْمُضْغَةُ الَّتِي إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: ٣] ، وَلِذَلِكَ كَرَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ الرَّاوِي عَنِ الْمَاضِي إِلَى الْمُضَارِعِ اسْتِحْضَارًا لِتِلْكَ الْحَالَةِ فِي مُشَاهَدَةِ السَّامِعِ، وَاهْتِمَامًا بِشَأْنِهَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَفَصْلِ الْخِطَابِ الَّذِي خُصَّ بِهِ هَذَا النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هُنَا كَلَامُ الطِّيبِيِّ قَدْ تَمَّ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى بَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ مِنْ زَوَائِدِ فَوَائِدِ شَرْحِهِ الْمُنِيفِ.

مِنْهَا، قَوْلُهُ: " التَّقْوَى هَهُنَا ". قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّقْوَى فِي صَدْرِي، وَفُرُوعَهَا فِي قُلُوبِ جَمِيعِ الْخَلْقِ ; لِأَنَّهُ مَحَلُّ عَيْنِ الْجَمْعِ، وَمِرْآةُ كُشُوفِ الْغَيْبِ، كَمَا قَالَ: " «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَخْوَفُكُمْ مِنْهُ» " بَيَّنَ أَنَّ مَنْ زَادَ مَعْرِفَتُهُ زَادَ خَشْيَتُهُ وَتَقْوَاهُ، وَلَيْسَ فِي الْكَوْنَيْنِ أَعْرَفُ مِنْهُ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ قَالَ: " «لِكُلِّ شَيْءٍ مَعْدِنٌ وَمَعْدِنُ التَّقْوَى قُلُوبُ الْعَارِفِينَ» " ; لِأَنَّ الْعَارِفَ غَائِبٌ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، تَائِقٌ إِلَى لِقَائِهِ، هَائِمٌ فِي مَحَبَّتِهِ تَجْرِي عَيْنُ التَّقْوَى مِنْ بِحَارِ مَعْرِفَتِهِ مِنْ رُوحِهِ إِلَى قَلْبِهِ، وَمِنْ قَلْبِهِ إِلَى قَالَبِهِ، وَسِرُّهُ مَعْدِنُ التَّوْحِيدِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ تَجَلَّى فِيهِ بِنَعْتِ الْقِدَمِ، وَرُوحُهُ مَعْدِنُ الْمَعْرِفَةِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ تَجَلَّى بِوَصْفِ الْبَقَاءِ فِيهَا، وَقَلْبُهُ مَعْدِنُ الْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى ; لِأَنَّهُ تَجَلَّى بِوَصْفِ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ، فَالتَّوْحِيدُ مِنْ عَيْنِ الْقِدَمِ، وَالْمَعْرِفَةُ مِنْ عَيْنِ الْبَقَاءِ، وَالتَّقْوَى مِنْ عَيْنِ الْكِبْرِيَاءِ، وَقَوْلُهُ: (ثَلَاثُ مِرَارٍ) بِرَاءٍ فِي آخِرِهِ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ: (بِحَسْبِ امْرِئٍ) مُبْتَدَأٌ وَالْبَاءُ فِيهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>