وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُتَّحِدُونَ بِحَسَبِ الْأَرْوَاحِ مُتَعَدِّدُونَ مِنْ حَيْثُ الْأَجْسَامِ وَالْأَشْبَاحِ كَنُورٍ وَاحِدٍ فِي مَظَاهِرَ مُخْتَلِفَةٍ، أَوْ كَنَفْسِ وَاحِدَةٍ فِي أَبْدَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ، بِحَيْثُ لَوْ تَأَلَّمَ الْوَاحِدُ تَأَثَّرَ الْجَمِيعُ، كَمَا لَوَّحَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» "، وَكَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ النَّقْشَبَنْدِيَّةِ أَنَّهُ أَحَسَّ بِالْبُرُودَةِ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَغَطَّوْهُ فَجَاءَهُ مُرِيدٌ لَهُ وَقَعَ فِي مَاءٍ بَارِدٍ فِي شِتَاءٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ الشَّيْخُ: أَدْفِئُوهُ، فَلَمَّا دَفِئَ الْمُرِيدُ قَامَ الشَّيْخُ مُسْتَدْفِئًا، وَنَظِيرُهُ أَنَّ لَيْلَى افْتُصِدَتْ فَخَرَجَ الدَّمُ مِنْ يَدِ الْعَامِرِيِّ، فَأَنْشَدَ:
أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا ... نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا
لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ رُوحٌ وَاحِدٌ تَعَلَّقَ بِهَا بَدَنَانِ، فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى الْأَبْدَانِ الْمُكْتَسَبَةِ الْوَاقِعَةِ لِلسَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُوهِمٌ لِلْحُلُولِ، ثُمَّ بَلْ لَوْ تَمَكَّنُوا فِيهِ صَحَّ ذَلِكَ لَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ ضَرَبَ عَبْدُهُ حِمَارًا، فَتَأَلَّمَ الشَّيْخُ بِحَيْثُ رُؤِيَ أَلَمُ الضَّرْبِ فِي عُضْوِهِ الَّذِي بِإِزَاءِ الْعُضْوِ الْمَضْرُوبِ لِلْحِمَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِيمَانَهُمْ مِنْ أَثَرِ نُورِ الْهِدَايَةِ شَرْعًا وَطَرِيقَةً، وَمِنْ أَثَرِ نُورِ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَهُوَ نُورُ التَّوْحِيدِ مِنْ عَكْسِ نُورِ الْفَرْدَانِيَّةِ مِنْ نُورِ الذَّاتِ فَأَرْوَاحُهُمُ اتَّحَدَتْ بِذَلِكَ النُّورِ الْمُقْتَضِي لِلْأُلْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَإِنْ حَزِنَ وَاحِدٌ حَزِنُوا، وَإِنْ فَرِحَ وَاحِدٌ فَرِحُوا، وَهَذَا مَقَامُ الْجَمْعِ بِالرُّوحِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عِنْدَ تَجَلِّي الرُّوحِ الْأَعْظَمِ عَنْ تَفْرِقَةِ الطَّبِيعَةِ وَتَتَّحِدُ الْأَرْوَاحُ، وَهُنَاكَ مَقَامٌ أَعْلَى يُقَالُ لَهُ: جَمْعُ الْجَمْعِ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ عِنْدَ تَجَلِّي الْحَقِّ لَهُ عَنْ تَفْرِقَةِ الْغَيْرِ رُوحَانِيًّا وَنَفْسَانِيًّا مَلَكِيًّا وَمَلَكُوتِيًّا، فَلَا يُرَى غَيْرُ اللَّهِ لِاخْتِفَاءِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فِي نُورِ التَّوْحِيدِ، كَاخْتِفَاءِ النُّجُومِ عِنْدَ إِشْرَاقِ الشَّمْسِ، وَهَذَا رَشْحُهُ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَيْ: مَعْنًى، فَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ: لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ وَفِي نُسْخَةٍ عَبْدٌ، وَفِي أُخْرَى أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ قَسَمٍ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ، أَوْ قَالَ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، فَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ لَفْظَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَفْظًا هُوَ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، كَمَا رَوَاهُ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ. وَقَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَكَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالثَّلَاثَةُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute