للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

خَمْسِينَ يَوْمًا. قَالَ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَافَ مِنْ مُكَالَمَةِ أَحَدٍ وَصِلَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ أَوْ يُدْخِلَ مَضَرَّةً فِي دُنْيَاهُ يَجُوزُ لَهُ مُجَانَبَتُهُ وَبُعْدُهُ، وَرَبَّ صَرْمٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ تُؤْذِيهِ. وَفِي النِّهَايَةِ: يُرِيدُ بِهِ الْهَجْرَ ضِدَّ الْوَصْلِ، يَعْنِي فِيمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَتْبٍ وَمَوْجَدَةٍ، أَوْ تَقْصِيرٍ يَقَعُ فِي حُقُوقِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ دُونَ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الدِّينِ، فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَاجِبَةٌ عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَافَ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ النِّفَاقَ حِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ بِهِجْرَانِهِمْ خَمْسِينَ يَوْمًا، وَقَدْ هَجَرَ نِسَاءَهُ شَهْرًا وَهَجَرَتْ عَائِشَةُ ابْنَ الزُّبَيْرِ مُدَّةً، وَهَجَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ جَمَاعَةً مِنْهُمْ، وَمَاتُوا مُتَهَاجِرِينَ، وَلَعَلَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مَنْسُوخٌ بِالْآخَرِ.

قُلْتُ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُحْمَلَ نَحْوُ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْمُتَوَاخِيَيْنِ أَوِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، بِخِلَافِ الْوَالِدِ مَعَ الْوَلَدِ، وَالْأُسْتَاذِ مَعَ تِلْمِيذِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ مَا وُقِّرَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخُلُقِ لِبَعْضِ الْخَلَفِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْهِجْرَةُ الْمُحَرَّمَةُ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّحْنَاءِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ، فَغَيْرُهَا إِمَّا مُبَاحٌ أَوْ خِلَافُ الْأُولَى (يَلْتَقِيَانِ) أَيْ: يَتَلَاقَيَانِ وَهُوَ مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ. (فَيُعْرِضُ هَذَا) أَيْ: وَجْهَهُ عَنْهُ (وَيُعْرِضُ هَذَا) : اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْهِجْرَانِ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَهْجُرُ وَمَفْعُولِهِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ التَّلَاقِي وَالْإِعْرَاضُ فَلَا بَأْسَ بِالْهِجْرَانِ الْمُطْلَقِ، وَهَلْ يُعْتَبَرُ التَّثْلِيثُ أَمْ لَا؟ مَحَلُّ بَحْثٍ أَوْ تَوَقُّفٍ (وَخَيْرُهُمَا) : عَطْفٌ عَلَى لَا يَحِلُّ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: عَطْفٌ عَلَى يَلْتَقِيَانِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَا يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَيْسَ بِخَيْرٍ اهـ. وَتَكَلُّفُهُ، بَلْ تَعَسُّفُهُ لَا يَخْفَى، وَالْمَعْنَى أَفْضَلُهُمَا فِي طَرِيقِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ (الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) أَيْ: ثُمَّ الَّذِي يَرُدُّهُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَرُدَّهُ لَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ أَصْلًا، فَيَجُوزُ هِجْرَانُهُ، بَلْ يَجِبُ لِأَنَّهُ بِتَرْكِ رَدِّ السَّلَامِ صَارَ فَاسِقًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْبَادِئُ خَيْرَهُمَا لِدَلَالَةِ فِعْلِهِ، عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التَّوَاضُعِ وَأَنْسَبُ إِلَى الصَّفَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ، وَلِلْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى حُسْنِ الْعَهْدِ وَحِفْظِ الْمَوَدَّةِ الْقَدِيمَةِ، أَوْ كَأَنَّهُ بَادِئٌ فِي الْمَحَبَّةِ وَالصُّحْبَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْأَكْمَلُ: وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى إِزَالَةِ الْهِجْرَانِ، وَأَنَّهُ يَزُولُ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ اهـ. وَفِيهِ إِيمَاءٌ بِأَنَّهُ لَا يَخْفَى لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبْدَأَ بِالْكَلَامِ قَبْلَ السَّلَامِ، كَمَا وَرَدَ: فِيمَا سَبَقَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>