قُلْتُ: هَذَا أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ، لَكِنَّ الْأَنْسَبَ أَنْ يُقَيَّدَ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي تَقْضِي إِلَى سُوءِ الظَّنِّ، كَمَا يُفِيدُهُ الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ، وَقَدْ قُرِئَ فِيهَا بِالْحَرْفَيْنِ، لَكِنَّ الْحَاءَ شَاذٌّ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ لَا تَبْحَثُوا عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ. تَفَعُّلٌ مِنَ الْجَسِّ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الطَّلَبِ كَالتَّلَمُّسِ، وَقُرِئَ بِالْحَاءِ مِنَ الْحِسِّ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْجَسِّ وَغَايَتُهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْحَوَاسِّ الْجَوَاسُّ اهـ. وَقِيلَ بِالْجِيمِ التَّفْتِيشُ عَنْ بَوَاطِنِ الْأُمُورِ بِتَلَطُّفٍ وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ، وَبِالْحَاءِ تَطْلُبُ الشَّيْءَ بِالْحَاسَّةِ كَاسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَإِبْصَارِ الشَّيْءِ خُفْيَةً. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ التَّفَحُّصُ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ وَبَوَاطِنِ أُمُورِهِمْ بِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي بِنَفْسِهِ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ مَخْصُوصٌ بِالشَّرِّ وَالثَّانِي أَعَمُّ. (وَلَا تَنَاجَشُوا) : مِنَ النَّجْشِ بِالْجِيمِ وَالْمُعْجَمَةِ. قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ طَلَبُ التَّرَفُّعِ وَالْعُلُوِّ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِسَابِقِهِ وَلَاحِقِهِ. وَقِيلَ: أَنْ يُغْرِيَ بَعْضٌ بَعْضًا عَلَى الشَّرِّ وَالْخُصُومَةِ، وَهُوَ مِنْ نَتَائِجِ التَّجَسُّسِ. وَقِيلَ: هُوَ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ بِغَيْرِ رَغْبَةٍ فِي السِّلْعَةِ، بَلْ لِيَخْدَعَ الْمُشْتَرِي بِالتَّرْغِيبِ مِنَ النَّجْشِ رَفْعِ الثَّمَنِ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ، وَقِيلَ: مِنَ النَّجْشِ مَعْنَى التَّنْفِيرِ أَيْ لَا يُنَفِّرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِأَنْ يُسْمِعَهُ كَلَامًا أَوْ يَعْمَلَ شَيْئًا يَكُونُ سَبَبَ نُفْرَتِهِ (وَلَا تَحَاسَدُوا) أَيْ: لَا يَتَمَنَّى بَعْضُكُمْ زَوَالَ نِعْمَةِ بَعْضٍ سَوَاءٌ أَرَادَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ لَا. قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: ٣٢] إِلَى أَنْ قَالَ: " {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: ٣٢] " أَيْ مِثْلَ تِلْكَ النِّعْمَةِ أَوْ أَمْثَلَ مِنْهَا، وَهَذَا الْحَسَدُ الْمَحْمُودُ الْمُسَمَّى بِالْغِبْطَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ " «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ» " الْحَدِيثَ. (وَلَا تَبَاغَضُوا) أَيْ: لَا تَخْتَلِفُوا فِي الْأَهْوَاءِ وَالْمَذَاهِبِ ; لِأَنَّ الْبِدْعَةَ فِي الدِّينِ وَالضَّلَالُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ يُوجِبُ الْبُغْضَ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّبَاغُضِ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالتَّحَابُبِ مُطْلَقًا إِلَّا مَا يَخْتَلُّ بِهِ الدِّينُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ التَّحَابُبُ، وَيَجُوزُ التَّبَاغُضُ لِأَنَّ غَرَضَ الشَّارِعِ اجْتِمَاعُ كَلِمَةِ الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: ١٠٣] وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّحَابُبَ سَبَبُ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّبَاغُضُ مُوجِبُ الِافْتِرَاقِ، فَالْمَعْنَى لَا يُبْغِضْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: أَيْ لَا تَشْتَغِلُوا بِأَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ إِذِ الْعَدَاوَةُ وَالْمَحَبَّةُ مِمَّا لَا اخْتِيَارَ فِيهِ، فَإِنَّ الْبُغْضَ مِنْ نِفَارِ النَّفْسِ عَمَّا مَا يُرْغَبُ عَنْهُ، وَأَوَّلُهُ الْكَرَاهَةُ، وَأَوْسَطُهُ النُّفْرَةُ، وَآخِرُهُ الْعَدَاوَةُ، كَمَا أَنَّ الْحُبَّ مِنِ انْجِذَابِ النَّفْسِ إِلَى مَا يَرْغَبُ فِيهِ، وَمَبْدَؤُهُ الْمَيْلُ، ثُمَّ الْإِرَادَةُ، ثُمَّ الْمَوَدَّةُ وَهُمَا مِنْ غَرَائِزِ الطَّبْعِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: لَا تُوقِعُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ نَهْيًا عَنِ النَّمِيمَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْسِيسِ الْفَسَادِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِمَصْلَحَةٍ، فَإِذَا دَعَتْ كَمَا لَوْ أُخْبِرَ أَنَّ إِنْسَانًا يُرِيدُ الْفَتْكَ بِهِ، أَوْ بِأَهْلِهِ أَوْ بِمَالِهِ، فَلَا مَنْعَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا. (وَلَا تَدَابَرُوا) : بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِيهِ، وَفِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ، وَيَجُوزُ تَشْدِيدُ التَّاءِ وَصْلًا كَمَا قَرَأَ بِهِ الْبَزِّيُّ رَاوِي ابْنِ كَثِيرٍ مِنْ نَحْوِ: لَا تَيَمَّمُوا أَيْ: لَا تُقَاطِعُوا، وَلَا تُوَلُّوا ظُهُورَكُمْ عَنْ إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تُعْرِضُوا عَنْهُمْ مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّبُرِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُتَقَاطِعَيْنِ يُوَلِّي دُبُرَهُ صَاحِبَهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَغْتَابُوا. (وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا) : خَبَرٌ آخَرُ أَوْ بَدَلٌ، أَوْ هُوَ الْخَبَرُ وَعِبَادُ اللَّهِ مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ بِالنِّدَاءِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذَا الْوَجْهُ أَوْقَعُ. قُلْتُ: بَلْ وُقُوعُهُ خَبَرًا وَاقِعًا تَحْتَ الْأَمْرِ أَوْجَهُ، لِكَوْنِ هَذَا الْوَجْهِ مُشْعِرًا بِالْعِلْيَةِ مِنْ حَيْثُ الْعُبُودِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ فِي رِوَايَةٍ ضُبِطَ عِبَادٌ بِالنَّصْبِ وَلِلَّهِ بِاللَّامِ الْأَجَلِّيِّةِ، وَالْمَعْنَى أَنْتُمْ مُسْتَوُونَ فِي كَوْنِكُمْ عُبَيْدَ اللَّهِ وَمِلَّتُكُمْ وَاحِدَةٌ، وَالتَّحَاسُدُ وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّقَاطُعُ مُنَافِيَةٌ لِحَالِكُمْ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُعَامَلُوا مُعَامَلَةَ الْأُخُوَّةِ وَالْمُعَاشَرَةِ فِي الْمَوَدَّةِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبَرِّ وَالنَّصِيحَةِ بِكُلِّ حَسَنَةٍ. قِيلَ: الْأَخُ النَّسَبِيُّ يُجْمَعُ عَلَى الْإِخْوَةِ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: ١١] وَالْمَجَازِيُّ عَلَى الْأَخَوَانِ قَالَ تَعَالَى: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: ٤٧] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: ١٠] لِلْمُبَالَغَةِ وَالْمَفْهُومُ مِنَ الْقَامُوسِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute