وَيَدُلُّ عَلَى مَا قَرَّرْنَا أَنَّ تَبْدِيلَهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي آخِرِ أَمْرِهِمْ قَوْلَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ أَوْ عَلَى الْحَالِ الْبَيَانِيِّ (يُسَاقُونَ) : بِضَمِّ الْقَافِ أَيْ: يُسْحَبُونَ وَيُجَرُّونَ (إِلَى سِجْنٍ) أَيْ: مَكَانِ حَبْسٍ مُظْلِمٍ مُضَيَّقٍ مُنْقَطِعٍ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ (يُسَمَّى) أَيْ: ذَلِكَ السِّجْنُ (بَوْلَسُ) : بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ وَسُكُونِ وَاوٍ وَفَتْحِ لَامٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ، فَفِي الْقَامُوسِ: بَوْلَسُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ سِجْنُ جَهَنَّمَ، وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ: هُوَ بِضَمِّ الْمُوَحِّدَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَفَتْحِ اللَّامِ ذَكَرَهُ مِيرَكُ. وَقَالَ شَارِحٌ: بِفَتْحِ الْمُوَحِّدَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا فَوْعَلُ مِنَ الْإِبْلَاسِ بِمَعْنَى الْيَأْسِ سُمِّيَ بِهِ لِيَأْسِ دَاخِلِهِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَفِي النِّهَايَةِ: فَكَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مُسَمًّى، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِضَبْطِهِ، فَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَصَاحِبُ الْقَامُوسِ أَوْلَى مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِمَا لِجَلَالَتِهِمَا فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (تَعْلُوهُمْ) أَيْ: تُحِيطُ بِهِمْ وَتَغْشَاهُمْ كَالْمَاءِ يَعْلُو الْغَرِيقَ (نَارُ الْأَنْيَارِ) أَيْ: نَارُ النِّيرَانِ. قَالَ شَارِحٌ: أَنْيَارٌ جَمْعُ نَارٍ كَأَنْيَابٍ جَمْعٌ نَابٍ، وَفِيهِ أَنَّ النَّابَ يَائِيٌّ وَالنَّارَ وَاوِيٌّ، وَلِذَا لَمْ يُذْكَرْ أَنْيَارٌ فِي الْقَامُوسِ لِكَوْنِهِ شَاذًّا، وَالْقِيَاسُ الْأَنْوَارُ إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ الْأَنْيَارُ لِئَلَّا يُشْتَبَهُ بِجَمْعِ النُّورِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَإِضَافَةُ النَّارِ إِلَيْهَا لِلْمُبَالَغَةِ كَأَنَّ هَذِهِ النَّارَ لِفَرْطِ إِحْرَاقِهَا وَشِدَّةِ حَرِّهَا تَفْعَلُ بِسَائِرِ النِّيرَانِ مَا تَفْعَلُ النَّارُ بِغَيْرِهَا. أَقُولُ: أَوْ لِأَنَّهَا أَصْلُ نِيرَانِ الْعَالَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: ١٢] وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَارُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ " عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَفِي النِّهَايَةِ قَوْلُهُ: نَارُ الْأَنْيَارِ لَمْ أَجِدْهُ مَشْرُوحًا وَلَكِنْ هَكَذَا يُرْوَى، فَإِنْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ نَارَ النِّيرَانِ، فَجَمَعَ النَّارَ عَلَى أَنْيَارٍ، وَأَصْلُهَا أَنْوَارٌ، لِأَنَّهَا مِنَ الْوَاوِ، وَكَمَا جَاءَ فِي رِيحٍ وَعِيدٍ أَرْيَاحٌ وَأَعْيَادٌ وَهُمَا مِنَ الْوَاوِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُمَا وَتَوْجِيهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَخَافَةِ الِالْتِبَاسِ، فَإِنَّ الْأَعْوَادَ بِمَعْنَى الْأَخْشَابِ، وَالْأَرْوَاحَ جَمْعُ الرُّوحِ. (يُسْقَوْنَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِكْرَاهِ وَإِيمَاءٌ إِلَى زِيَادَةِ الْإِحْرَاقِ الْمُؤْثَرِ إِلَى بِطُونِهِمْ أَيْضًا (مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ) أَيْ: صَدِيدِهِمُ الْمُنْتِنِ الْمُحْمَى غَايَةِ الْحَرَارَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِحَمِيمٍ (طِينَةِ الْخَبَالِ) : تَفْسِيرٌ لِمَا قَبِلَهُ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ بِمَعْنَى الْفَسَادِ. قَالَ شَارِحٌ: هُوَ اسْمُ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ، وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْهُمْ مَنِ الصَّدِيدِ وَالْقَيْحِ وَالدَّمِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «يُجَاءُ بِالْجَبَّارِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ رِجَالٌ فِي صُوَرِ الذَّرِ يَطَؤُهُمُ النَّاسُ مِنْ هَوَانِهِمْ عَلَى اللَّهِ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى نَارِ الْأَنْيَارِ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا نَارُ الْأَنْيَارِ؟ قَالَ: " عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْبُدُورِ السَّافِرَةِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute