وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ صِحَّةَ الرِّوَايَةِ وَإِلَّا فَقَدْ تَقَدَّمَ صِحَّةُ الدِّرَايَةِ بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُ كَلَامَ الشَّيْخِ ضَبْطُ الْكَلِمَةِ بِفَتْحِ الدَّالِ فِي أَصْلِ السَّيِّدِ وَسَائِرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْفِعْلِ الصَّحِيحِ حَيْثُ يُقَالُ فِي الْمُفْرَدِ الْمَجْهُولِ: لِيَضْرِبَنَّ بِفَتْحِ الْمُوَحِّدَةِ، وَقَدْ غَفَلَ الطِّيبِيُّ عَنْ هَذَا الْمَبْنَى، وَذَهَبَ إِلَى رِعَايَةِ الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ: إِنْ كَانَ الرَدُّ لِأَجْلِ الرِّوَايَةِ فَلَا مَقَالَ، وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ الدِّرَايَةَ، فَإِنَّ بَابَ التَّغْلِيبِ وَاسِعٌ، فَيَكُونُ قَدْ غَلَبَ الْعُقَلَاءُ عَلَى غَيْرِهِمْ وَجَعَلَ قَوْلَهُ: (حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ) : غَايَةً بِحَسَبِ التَّغْلِيبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: ١١] فَالضَّمِيرُ فِي يَذْرَؤُكُمْ رَاجِعٌ إِلَى الْأَنَاسِيِّ وَالْأَنْعَامِ عَلَى التَّغْلِيبِ اهـ.
وَالْمَعْنَى يُكَثِّرُكُمْ مِنَ الذَّرْءِ وَهُوَ الْبَثُّ، وَقَوْلُهُ: (فِيهِ) أَيْ: فِي هَذَا التَّدْبِيرِ وَهُوَ جَعْلُ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَوَالُدٌ، فَإِنَّهُ كَانَ كَالْمَنْبَعِ لِلْبَثِّ وَالتَّكْثِيرِ ذَكَرَهُ الْبَيْضَاوِيُّ، وَجَعَلَ فِي لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ وَشَبَّهَ التَّدْبِيرَ بِالْمَنْبَعِ، وَفِي الْإِتْقَانِ أَنَّ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ: بِسَبَبِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا، وَهَذَا إِذَا أُرِيدَ بِالْجَلْحَاءِ وَالْقَرْنَاءِ الشَّاتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ، وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِالْجَلْحَاءِ الْفَقِيرُ أَوِ الْمَظْلُومُ وَبِالْقَرْنَاءِ الْغَنِيُّ أَوِ الظَّالِمُ عَلَى مَا قِيلَ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى ارْتِكَابِ التَّغْلِيبِ وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ، ثُمَّ الْجَلْحَاءُ بِجِيمٍ فَلَامٍ فَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: الْجَلْحَاءُ بِالْمَدِّ هِيَ الْجَمَّاءُ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا، وَالْقَرْنَاءُ ضِدُّهَا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِحَشْرِ الْبَهَائِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِعَادَتِهَا كَمَا يُعَادُ أَهْلُ التَّكْلِيفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَطَالِلِ وَالْمَجَانِينِ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ، وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: ٥] وَإِذَا وَرَدَ لَفْظُ الشَّرْعِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ شَرْعٌ وَلَا عَقْلٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ قَالُوا: وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ فِي الْقِيَامَةِ الْمُجَازَاةُ وَالْعِقَابُ وَالثَّوَابُ، وَأَمَّا الْقِصَاصُ مِنَ الْقَرْنَاءِ لِلْجَلْحَاءِ، فَلَيْسَ مِنْ قَصَاصِ التَّكْلِيفِ، بَلْ هُوَ قَصَاصُ مُقَابَلَةٍ اهـ. وَفِي كَوْنِهِ قَصَاصَ مُقَابَلَةٍ نَظَرٌ لَا يَخْفَى، مَعَ أَنَّ قَصَاصَ الْمُقَابَلَةِ نَحْنُ مُكَلَّفُونَ بِهِ أَيْضًا.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ: لَوْ نَطَحَ شَاةٌ قَرْنَاءُ شَاةً جَلْحَاءَ فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُؤْخَذُ الْقَرْنُ مِنَ الْقَرْنَاءِ وَيُعْطَى الْجَلْحَاءَ حَتَّى تَقْتَصَّ لِنَفْسِهَا مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: الشَّاةُ غَيْرُ مُكَلَّفَةٍ، فَكَيْفَ يُقْتَصُّ مِنْهَا؟ قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَعَالٌ لِمَا يُرِيدُ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ إِعْلَامُ الْعِبَادِ بِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَضِيعُ، بَلْ يُقْتَصُّ حَقُّ الْمَظْلُومِ مِنَ الْمَظَالِمِ اهـ. وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ وَتَوْجِيهٌ مُسْتَحْسَنٌ إِلَّا أَنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ الْحِكْمَةِ بِالْغَرَضِ وَقَعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْقَضِيَّةَ دَالَّةٌ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ عَلَى كَمَالِ الْعَدَالَةِ بَيْنَ كَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الْحَيَوَانَاتِ الْخَارِجَةِ عَنِ التَّكْلِيفِ، فَكَيْفَ بِذَوِي الْعُقُولِ مِنَ الْوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ؟ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَفِي الْجَامِعِ بِزِيَادَةِ تَنْطَحُهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَالتِّرْمِذِيُّ.
(وَذَكَرَ حَدِيثَ جَابِرٍ اتَّقَوُا الظُّلْمَ) : تَمَامُهُ: «فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقَوُا الشُّحَّ ; فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» (فِي بَابِ الْإِنْفَاقِ) أَيْ: مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا مِنَ الْمُؤَلِّفِ إِنْ كَانَ عَنْ تَكْرَارٍ أَسْقَطَهُ فَهُوَ اعْتِذَارٌ حَسَنٌ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ بَابِ تَحْوِيلِ الْحَدِيثِ إِلَى بَابٍ أَنْسَبَ مِنْهُ فَهُوَ اعْتِرَاضٌ لَكِنْ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ شَامِلٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute