الْفَصْلُ الثَّالِثُ
٥١٣١ - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: ٨٢] . شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ ذَاكَ؟ إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣] . وَفِي رِوَايَةٍ: " لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
٥١٣١ - (عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ) : بِالتَّأْنِيثِ لِكَوْنِ مَا بَعْدَهُ مِنْ فَاعِلِهِ آيَةً وَالتَّقْدِيرُ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} [الأنعام: ٨٢] بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: لَمْ يَخْلِطُوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: ٨٢] تَمَامُهُ: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام: ٨٢] أَيْ: فِي الْآخِرَةِ {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: ٨٢] أَيْ: فِي الدُّنْيَا (شَقَّ ذَلِكَ) أَيْ: صَعُبَ ذَلِكَ الْكَلَامُ أَوِ الْحُكْمُ (عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ: ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ مُطْلَقُ الْمَعَاصِي كَمَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ، لَا سِيَّمَا مِنَ التَّنْكِيرِ الَّذِي يُفِيدُ الْعُمُومَ (وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) أَيْ: ظُلْمًا قَاصِرًا أَوْ مُتَعَدِّيًا مَعَ أَنَّ الثَّانِي أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى ظُلْمِ النَّفْسِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: ٧] (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ ذَاكَ) أَيْ: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَمَا فَهِمْتُمْ (إِنَّمَا هُوَ) أَيِ: الظُّلْمُ (الشِّرْكُ) : فَفِي التَّنْكِيرِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّ نَوْعٍ مِنَ الْكُفْرِ أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّعْظِيمُ أَيْ بِظُلْمٍ عَظِيمٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ) أَيْ: وَهُوَ مُؤْمِنٌ (يَا بُنَيَّ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان: ١٣] أَيْ: لَا تَخْلِطِ الْإِشْرَاكَ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: ١٣] : اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ أَيْ: فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الْإِيمَانَ وَيَسْتَأْصِلُهُ وَلَا يَجْتَمِعُ مَعَهُ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: ٥] بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْإِيمَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَةِ، فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَهِمُوا خَلْطَ الْمَعْصِيَةِ بِالْإِيمَانِ، لِأَنَّ الشِّرْكَ لَا يُتَصَوَّرُ خَلْطُهُ بِهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ خَلْطَهُ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَيُشْرِكَ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، فَيَكُونُ إِيمَانًا لُغَوِيًّا لَا شَرْعِيًّا، وَإِلَّا فَالْإِيمَانُ بِاللَّهِ إِنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى إِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ نُعُوتِ النَّقْصِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُ أَنَّهُ يَكُونُ جَمِيعُ الْكُفَّارِ مُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ حَقِيقَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: ٦١] وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ بِالْإِشْرَاكِ الصُّورِيِّ أَيْضًا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: ( «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكَ» ) . فَإِذَا تَأَمَّلْتَ ظَهَرَ لَكَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الشِّرْكِ الْحَقِيقِيِّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذِ الْمُمْكِنُ بِجَنْبِ وَاجِبِ الْوُجُودِ كَالْمَعْدُومِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ هُوَ) أَيِ: الْأَمْرُ أَوِ الظُّلْمُ أَوِ الْحُكْمُ (كَمَا تَظُنُّونَ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ) أَيْ: إِلَخْ. قَالَ الطِّيبِيُّ فُهِمَ مِنْ مَعْنَى اللَّبْسِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الظُّلْمِ الْمَعْصِيَةُ لِأَنَّ لَفْظَ اللَّبْسِ يَأْبَى أَنْ يُرَادَ بِهِ الشِّرْكُ، فَالْمَعْنَى لَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهُمْ بِمَعْصِيَةٍ تُفَسِّقُهُمْ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ ذَاكَ مَعْنَاهُ لَيْسَ كَمَا تَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّبْسَ يَقْتَضِي الْخَلْطَ وَلَا يُتَصَوَّرُ خَلْطُ الشِّرْكَ بِالْإِيمَانِ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُشْرِكُ فِي عِبَادَتِهِ غَيْرَهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: ١٠٦] قَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ مَعَهُمْ شِرْكٌ وَإِيمَانٌ بِهِ، وَقِيلَ النِّفَاقُ لِبْسُ الْإِيمَانِ الظَّاهِرِ بِالْكُفْرِ الْبَاطِنِ وَفِي الْآيَةِ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالظُّلْمِ فِيهَا الشِّرْكُ، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةَ اطِّلَاعٍ عَلَيْهِ فَلْيَنْظُرْ فِي فُتُوحِ الْغَيْبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute