وَيَتَمَنَّوْنَ إِيمَانَهُمْ، وَفِي تَفْسِيرِ الْمُعِينِ الصَّفْوِيِّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ الْحِسْبَةِ إِذَا عُلِمَ عَدَمُ قَبُولِهَا، أَوْ فِيهَا مَفْسَدَةٌ، أَوْ إِضْرَارٌ لَهُ مِنْهَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ السِّلْفِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ مَعْنَى إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِذَا ائْتَمَرْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَمَرْتُمْ بِهِ، وَانْتَهَيْتُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنْهُ، كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، فَإِنَّ الِاهْتِدَاءَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِإِتْيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، أَوِ الْمُرَادُ الْمَنْعُ عَنْ إِهْلَاكِ النَّفْسِ أَسَفًا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْكَفَرَةُ وَالْفَسَقَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: ٨] وَقَالَ النَّوَوِيُّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة: ١٠٥] الْآيَةَ. فَلَيْسَتْ مُخَالِفَةً لِوُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، لِأَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ فَلَا يَضُرُّكُمْ تَقْصِيرُ غَيْرِكُمْ مِثْلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٦٤] فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِمَّا كُلِّفَ بِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا فَعَلَهُ، وَلَمْ يَمْتَثِلِ الْمُخَاطَبُ فَلَا عَتْبَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَدَّى مَا عَلَيْهِ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: إِذَا رَأَوْا) أَيِ: النَّاسُ (الظَّالِمَ) أَيِ: الْفَاسِقَ (فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ) أَيْ: لَمْ يَمْنَعُوهُ عَنْ ظُلْمِهِ (أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ) أَيْ: بِنَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ أَشَدَّ الْحِجَابِ (وَفِي أُخْرَى لَهُ) أَيْ: لِأَبِي دَاوُدَ (مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ هُوَ النَّائِبُ، أَوِ التَّقْدِيرُ يَعْمَلُ أَحَدٌ فَمَا بَيْنَهُمْ (بِالْمَعَاصِي، ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ ". وَفِي أُخْرَى لَهُ: " مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَكْثَرُ مِمَنْ يَعْمَلُهُ) : هُمْ صِفَةُ قَوْمٍ أَيْ: إِذَا كَانَ الَّذِينَ لَا يَعْمَلُونَ الْمَعَاصِيَ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَهَا، فَلَمْ يَمْنَعُوهُمْ عَنْهَا عَمَّهُمُ الْعَذَابُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُزَادُ بَعْدَهُ، ثُمَّ لَا يُغَيِّرُونَ إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ وَهُمْ صِفَةُ قَوْمٍ. قُلْتُ: هَذِهِ التَّقَادِيرُ مُسْتَفَادَةٌ مِمَّا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي رِوَايَةٍ: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيَسْتَعْمِلَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ، فَلَيَسُومُنَّكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، ثُمَّ لَيَدْعُنَّ اللَّهَ خِيَارُكُمْ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ» . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: خَافَ الصِّدِّيقُ أَنْ يَتَأَوَّلَ النَّاسُ الْآيَةَ غَيْرَ تَأَوُّلِهَا، فَيَدْعُوهُمْ إِلَى تَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَأَنِ الَّذِي أُذِنَ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْ تَغْيِيرِهِ مِنَ الْمُنْكَرِ هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ الْمُعَاهَدُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِهِ وَقَدْ صُولِحُوا عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْفُسُوقُ وَالْعِصْيَانُ وَالرَّيْبُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْآيَةُ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يَعْنِي عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَخُذُوا مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ وَاتْرُكُوهُمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهُوا عَنِ الْمُنْكَرِ مَا قُبِلَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ فَعَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مِنْهُ أَيْ: قَدْ مَضَى تَأْوِيلُهُنَّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلْنَ، وَمِنْهُ أَيْ: وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُ أَيْ: وَقَعَ تَأْوِيلُهُنَّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ، وَمِنْهُ أَيْ: وَيَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَمِنْهُ أَيْ: يَقَعُ تَأْوِيلُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَمَا دَامَتْ قُلُوبُكُمْ وَأَهْوَاؤُكُمْ وَاحِدَةً، وَلَمْ تُلْبَسُوا شِيَعًا، وَلَمْ يَذُقْ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأْمُرُوا وَانْهَوْا، فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَهْوَاءُ وَأُلْبِسْتُمْ شِيَعًا، وَذَاقَ بَعْضُكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَامْرُؤٌ وَنَفْسَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْآيَةِ اهـ. وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْآتِي.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute