وَضَعْفِ زَمَنِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا الْعَزِيمَةُ، فَأَنْ لَا يُبَالِيَ بِشَيْءٍ، مِمَّا ذُكِرَ، وَلِذَا وَرَدَ: " «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» " عَلَى مَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَجَمَاعَةٌ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: ٢٠٧] أَيْ: يَبِيعُهَا بِبَذْلِهَا فِي الْجِهَادِ، أَوْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى يُقْتَلَ ظُلْمًا لِرِضَاهُ لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، فَإِنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ عَجَزُوا مَعَ كَمَالِ قُوَّتِهِمْ فِي الدِّينِ وَالْيَقِينِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى إِظْهَارِ الْحَقِّ لِأَهْلِ الْبُطْلَانِ كَيَزِيدَ وَالْحَجَّاجِ، وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ الظَّلَمَةِ وَالْفَسَقَةِ، فَكَيْفَ حَالُنَا وَالْحَالُ أَنَّ بَعْدَ الْأَلْفِ أَيَّامَ تَقَهْقُرِ الْإِسْلَامِ، وَتَسَلُّطِ السَّلَاطِينِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنَامِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِهِمْ بِشُرُوطِ الْإِمَامَةِ وَالْخِلَافَةِ، وَقِلَّةِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، وَكَثْرَةِ الْعُضَلَاءِ الْجَاهِلِينَ وَالْقُضَاةِ الظَّالِمِينَ وَالْمَشَايِخِ الْمُرَائِينَ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَهَذَا لَا شَكَ أَنَّهُ زَمَانُ الصَّبْرِ الْمَقْرُونُ بِالشُّكْرِ الْمُنْضَمِّ إِلَى الرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْمُتَعَيِّنُ فِيهِ السُّكُوتُ، وَمُلَازَمَةُ الْبُيُوتِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْقُوتِ إِلَى أَنْ يَمُوتَ.
(ثُمَّ قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (إِنَّ بَنِي آدَمَ) : خُصُّوا بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ خُلِقُوا لِلْخَيْرِ فَقَطْ، وَالشَّيَاطِينَ خُلِقُوا لِلشَّرِّ فَقَطْ، فَالْأَوَّلُونَ مَظَاهِرُ الْجَمَالِ، وَالْآخَرُونَ مَظَاهِرُ الْجَلَالِ، وَبَنُو آدَمَ خُلِقُوا عَلَى وَصْفِ الْكَمَالِ، وَلَعَلَّ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ " أَيْ: عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ الْجَامِعَةِ لِنُعُوتِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَلَمَّا خَلَقَ فِيهِمْ هَذِهِ الْقَابِلِيَّةَ الْكَامِلَةَ قَدَرُوا عَلَى حَمْلِ الْأَمَانَةِ الشَّامِلَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ أَيْ: عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْعُلْوِيَّاتِ، وَالسُّفْلِيَّاتِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا أَيِ: امْتَنَعْنَ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِهِنَّ وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِنَّ، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ فَالْإِنْسَانُ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ مِنَ النُّعُوتِ الْمِلْكِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِعِنَايَةِ الْجَمَالِ الرَّبَّانِيِّ وَالصِّفَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِغَضَبِ الْجَلَالِ الصَّمَدَانِيِّ، فَإِنْ مَالَ السَّالِكُ إِلَى الْمَلَكِ صَارَ خَيْرًا مِنْهُ، وَإِنْ مَالَ إِلَى الشَّيْطَانِ صَارَ شَرًّا مِنْهُ، وَهُمْ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ الْإِجْمَالِيِّ وَالنَّعْتِ الْإِكْمَالِيِّ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خُلِقُوا) أَيْ: جُبِلُوا عَلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنِ اخْتِيَارِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ (عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى) أَيْ: مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَأَوْقَاتِهِمَا (فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا) أَيْ: مِنْ أَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ، أَوْ فِي بِلَادِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ حِينَ يُولَدُ قَبْلَ التَّمْيِيزِ لَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْإِيمَانُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ مَا عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْأَزَلِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ (وَيَحْيَا) أَيْ: يَعِيشُ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ مِنْ حِينِ تَمْيِيزِهِ إِلَى انْتِهَاءِ عُمْرِهِ (مُؤْمِنًا) أَيْ: كَامِلًا أَوْ نَاقِصًا (وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا) أَيْ: كَذَلِكَ جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْهُمْ ( «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا» ) أَيْ: بِخِلَافِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا وَرَدَ: " «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» " فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا قَابِلِيَّةُ قَبُولِ الْهِدَايَةِ، لَوْلَا مَانِعٌ مِنْ بَوَاعِثِ الضَّلَالَةِ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ: " «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ» " الْحَدِيثَ. ( «وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا» ) : نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ( «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا، وَيَحْيَا مُؤْمِنًا، وَيَمُوتُ كَافِرًا» ) : نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ خَاتِمَةِ الْهَاوِيَةِ، ( «وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا» ) : فَالْعِبْرَةُ بِالْخَوَاتِيمِ اللَّاحِقَةِ الْمُطَابَقَةِ لِلْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ مِنَ السَّعَادَةِ الْكَامِلَةِ وَالشَّقَاوَةِ الشَّامِلَةِ، وَكَانَ التَّقْسِيمُ غَالِبِيٌّ، وَإِلَّا فَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا كَافِرًا، وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا، وَلَعَلَّ عَدَمَ ذِكْرِهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاتِمَةِ، وَقَدْ عُلِمَتْ مِمَّا ذُكِرَ إِجْمَالًا.
(قَالَ) أَيْ: أَبُو سَعِيدٍ (وَذَكَرَ) أَيِ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الْغَضَبَ) : وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَخْلَاقِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهَا أَيْضًا كَالْإِيمَانِ مَجْبُولَةٌ مَجْعُولَةٌ فِي أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى، وَيُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الشَّمَائِلِ الْمَرْضِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ (فَمِنْهُمْ) أَيْ: مِنْ بَنِي آدَمَ، مَعَ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ مِنْ نَسْلِ نَبِيِّ اللَّهِ وَصِفِيِّهِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ طِينَتُهُ مَعْجُونَةً بِوَصْفِ خِلْقَتِهِ بِيَدَيِ الْلَّهِ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْمُخْتَلِفَةُ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ أَوَّلًا مِنَ الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ، وَالِاجْتِبَاءِ آخِرًا أَنْ يَكُونَ عَلَى طِبْقِهَا طَبَقَاتُ أَوْلَادِهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَمِنَ الْأَخْلَاقِ النَّاشِئَةِ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ (مَنْ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ) أَيْ: بِمُقْتَضَى الْخُلُقِ النَّفْسَانِيِّ (سَرِيعَ الْفَيْءِ) :
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute