وَقِيلَ: الزُّهْدُ عِبَارَةٌ عَنْ عُزُوبِ النَّفْسِ عَنِ الدُّنْيَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِأَجْلِ الْآخِرَةِ خَوْفًا مِنَ النَّارِ، أَوْ طَمَعًا فِي الْجَنَّةِ أَوْ تَرَفُّعًا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى مَا سِوَى الْحَقِّ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ شَرْحِ الصَّدْرِ بِنُورِ الْيَقِينِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الزُّهْدُ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ مَالٌ وَلَا جَاهٌ، وَقِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَا زَاهِدُ! قَالَ: الزَّاهِدُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِذْ جَاءَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً فَتَرَكَهَا، وَأَمَّا أَنَا فَفِيمَ زَهَدْتُ؟ قُلْتُ: هَذَا بَيَانُ كَمَالِ الزُّهْدِ، وَإِلَّا فَأَصْلُ الزُّهْدِ هُوَ عَدَمُ الْمَيْلِ إِلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِجَذْبَةٍ إِلَهِيَّةٍ تَصْرِفُ السَّالِكَ عَنِ الْأُمُورِ الْفَانِيَةِ، وَتَشْغَلُ بِالْأَحْوَالِ الْفَانِيَةِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ النَّفْسَ مُدَّعِيَةٌ لِلزُّهْدِ، وَلَا يَظْهَرُ صِدْقُهَا مِنْ كَذِبِهَا إِلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الدُّنْيَا وُجُودِهَا، وَأَمَّا عِنْدَ فَقْدِهَا فَالْأَمْرُ دَائِرٌ بَيْنَ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. وَثَمَرَتُهُ الْقَنَاعَةُ مِنَ الدُّنْيَا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ مِنْ زَادِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ مَطْعَمٌ يَدْفَعُ الْجُوعَ، وَمَلْبَسٌ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَمَسْكَنٌ يَصُونُهُ عَنِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَأَثَاثٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. وَفِي الْمَنَازِلِ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّ الزُّهْدَ إِسْقَاطُ الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ عَنْهُ بِالْكُلْفَةِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: الزُّهْدُ فِي الشُّبْهَةِ بِالْحَذَرِ عَنْ مَعْتَبَةِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، ثُمَّ الزُّهْدُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْبَلَاغِ مِنَ الْقُوتِ بِاغْتِنَامِ التَّفَرُّعِ إِلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ بِالِاشْتِغَالِ بِالْمُرَاقَبَةِ، ثُمَّ الزُّهْدُ وَالزُّهْدُ بِاسْتِحْقَارِ مَا زَهَدْتَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ الرَّبِّ، وَاسْتِوَاءِ الزُّهْدِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُ، وَالذَّهَابِ عِنْدَ اكْتِسَابِ أُجَرٍ بِتَرْكِهَا نَاظِرًا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الْفَاعِلِ الْحَقِّ، فَيُشَاهِدُ تَصَرُّفَ اللَّهِ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالْأَخْذِ وَالتَّرْكِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزُّهْدَ أَعْلَى الْمَقَامَاتِ وَأَفْضَلُهَا، لِأَنَّهُ جَعَلَهُ سَبَبًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مُحِبَّ الدُّنْيَا مُتَعَرِّضٌ لِبُغْضِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
قَالَ مِيرَكُ: أَظُنُّ أَنَّ ذِكْرَ التِّرْمِذِيِّ وَقَعَ سَهْوًا مِنْ نُسَّاخِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ صَاحِبِهِ، فَإِنَّ الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ، وَالْإِمَامَ النَّوَوِيَّ، وَالشَّيْخَ الْجَزَرِيَّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا كُلُّهُمْ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فَقَطْ فَتَأَمَّلْ. قُلْتُ: ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي أَرْبَعِينِهِ أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ. اه. لَكِنَّ التِّرْمِذِيَّ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْأُصُولِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ مِنْ قَوْلِهِ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا إِلَخْ. وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. نَعَمْ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي ذَرٍّ مَرْفُوعًا: " «الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ وَلَا إِضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الزَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا أَنْ لَا تَكُونَ بِمَا فِي يَدَيْكَ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ تَكُونَ فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إِذَا أَنْتَ أُصِبْتَ بِهَا أَرْغَبَ مِنْكَ فِيهَا لَوْ أَنَّهَا أُبْقِيَتْ لَكَ» ". وَفِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ طَاوُسٍ مُرْسَلًا: الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ، وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا تُطِيلُ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ. رَوَاهُ الْقُضَاعِيُّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَلَفْظُهُ: يُكْثِرُ بَدَلَ يُطِيلُ وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنُ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا. وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا: تُشَعِّبُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الضَّحَّاكِ مُرْسَلًا: أَزْهَدُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى، وَتَرَكَ أَفْضَلَ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَآثَرَ مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى، وَلَمْ يَعُدَّ غَدًا مِنْ أَيَّامِهِ، وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنَ الْمَوْتَى. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " «صَلَاحُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزَّهَادَةِ وَالْيَقِينِ، وَهَلَاكُ آخِرِهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ» " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute