للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

٥٢١٤ - وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ فَأَمَّا الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِئُ الْآخِرَةَ، وَهَذِهِ الدُّنْيَا مُرْتَحِلَةٌ ذَاهِبَةٌ، وَهَذِهِ الْآخِرَةُ مُرْتَحِلَةٌ قَادِمَةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تَكُونُوا مِنْ بَنِي الدُّنْيَا فَافْعَلُوا، فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الْعَمَلِ وَلَا حِسَابَ، وَأَنْتُمْ غَدًا فِي دَارِ الْآخِرَةِ وَلَا عَمَلَ» ". رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".

ــ

٥٢١٤ - (وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْهَوَى ") أَيْ: هَوَى النَّفْسِ وَمُشْتَهَيَاتُهَا (" وَطُولُ الْأَمَلِ ") أَيْ: بِتَسْوِيفِ الْعَمَلِ وَتَأْخِيرِهِ إِلَى آخِرِ حَيَاتِهِ (" فَأَمَّا الْهَوَى ") أَيِ: الْمُخَالِفُ لِلْهُدَى الْمُوَافِقُ لِلْبَاطِلِ (" فَيَصُدُّ ") أَيْ: يَمْنَعُ صَاحِبَهُ (" عَنِ الْحَقِّ ") أَيْ: عَنْ قَبُولِهِ وَانْقِيَادِهِ (" وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِئُ ") : مِنَ الْإِنْسَاءِ، وَيَجُوزُ بِالتَّشْدِيدِ (" الْآخِرَةَ ") : لِأَنَّ ذِكْرَهَا يَقْطَعُ الْأَمَلَ، وَيُوجِبُ الْعَمَلَ " وَهَذِهِ الدُّنْيَا " أَيِ: الْمَعْلُومَةُ ذِهْنًا، وَالْمَفْهُومَةُ حِسًّا (" مُرْتَحِلَةٌ ") أَيْ: سَاعَةً فَسَاعَةً (" ذَاهِبَةٌ ") أَيْ: رَائِحَةٌ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي صَاحِبُهَا، كَمَا لَا يَشْعُرُ بِسَيْرِ السَّفِينَةِ رَاكِبُهَا وَلِذَا قِيلَ: كُلُّ نَفَسٍ خُطْوَةٌ إِلَى أَجَلٍ رَاعَهَا " وَهَذِهِ الْآخِرَةُ مُرْتَحِلَةٌ قَادِمَةٌ " أَيْ: آتِيَةٌ شَبَّهَهُمَا بِالْمَطِيَّتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ فِي طَرِيقِهِمَا، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ سَاعَةٍ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا تَكُونُ النَّفَسَ الْأَخِيرَ الْمُقْتَضِيَ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي طَاعَةٍ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ " أَيْ: مُلَازِمُونَ، وَمُحِبُّونَ، وَرَاكِبُونَ، وَرَاغِبُونَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَضْدَادِ الْمَعْلُومَةِ، كَمَا حَقَّقَهُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ، (" فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تَكُونُوا مِنْ بَنِي الدُّنْيَا فَافْعَلُوا ") : وَفِيهِ اهْتِمَامٌ تَامٌّ بِتَرْكِ الدُّنْيَا وَمُبَالَغَةٌ بَلِيغَةٌ فِي مُلَازَمَةِ أَمْرِ الْأُخْرَى حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ فَافْعَلُوا، وَلَعَلَّ الْعُدُولَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ حُبِّ الدُّنْيَا حُصُولُ الْآخِرَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْلِ الْآخِرَةِ تَرْكُ حَظِّ الدُّنْيَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: ٢٠] وَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا - وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا - كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا - انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: ١٨ - ٢١] (فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الْعَمَلِ أَيْ: فِي دَارٍ يُطْلَبُ مِنْكُمْ عَمَلُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ تَكْلِيفٍ، فَاغْتَنِمُوا الْعَمَلَ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ بِتَرْكِ الْأَمَلِ ; لِأَنَّ الدُّنْيَا سَاعَةٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُصْرَفَ فِي طَاعَةٍ (" وَلَا حِسَابَ ") أَيِ: الْيَوْمَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفَاجِرِ وَإِلَّا فَرُوِيَ خِطَابًا لِلْأَبْرَارِ: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا» ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: ١٨] (وَأَنْتُمْ غَدًا فِي دَارِ الْآخِرَةِ) أَيْ: وَفِي الْحِسَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ (" وَلَا عَمَلَ ") أَيْ: يَوْمَئِذٍ لِانْقِطَاعِهِ بِالْأَجَلِ.

قَالَ السُّيُوطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: وَلَا حِسَابَ بِالْفَتْحِ بِغَيْرِ التَّنْوِينِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِالتَّنْوِينِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَلَا عَمَلَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَشَارَ بِهَذِهِ الدُّنْيَا إِلَى تَحْقِيرِ شَأْنِهَا وَوَشْكِ زَوَالِهَا، فِي قَوْلِهِ: الْآخِرَةُ أَشَارَ إِلَى تَعْظِيمِ أَمْرِهَا وَقُرْبِ نُزُولِهَا. وَقَوْلُهُ: فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ يَعْنِي بَيَّنْتُ لَكُمْ حَالَ الدُّنْيَا مِنْ غُرُورِهَا وَفَنَائِهَا، وَحَالَ الْآخِرَةِ مِنْ نَعِيمِهَا وَبَقَائِهَا، وَجَعَلْتُ زِمَامَ الِاخْتِيَارِ فِي أَيْدِيكُمْ فَاخْتَارُوا أَيًّا مَا شِئْتُمْ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَلَا حِسَابَ، فَوَضَعَ دَارَ الْعَمَلِ مَوْضِعَهَا لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الدُّنْيَا مَا خُلِقَتْ إِلَّا لِلْعَمَلِ وَالتَّزَوُّدِ مِنْهَا لِلدَّارِ الْآخِرَةِ. (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ جَابِرٌ مَرْفُوعًا، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي مَوْقُوفًا، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعٌ. قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ فِي الْمَوْقُوفِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْرُوفَ لَيْسَ ذَلِكَ الْقَبِيلَ الْمَعْرُوفَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا وَمَسْمُوعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَوَارُدًا مُطَابِقًا مَطْبُوعًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>