وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَأْكِيدٌ لِلشُّمُولِ أَيْ: ثَلَاثُونَ يَوْمًا وَلَيْلَةً مُتَوَاتِرَاتٍ لَا يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنَ الزَّمَانِ (" وَمَا لِي ") أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ لِي (" وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ ") : بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ وَفِي الْقَامُوسِ: بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَكَكَتِفٍ مَعْلُومٌ أَيْ: حَيَوَانٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ أَيْ: مَا مَعَنَا طَعَامٌ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَأْكُلُ الدَّوَابُّ أَوِ الْإِنْسَانُ (" إِلَّا شَيْءٌ ") أَيْ: قَلِيلٌ (" يُوَارِيهِ ") أَيْ: يَسْتُرُهُ وَيُغَطِّيهِ (" إِبْطُ بِلَالٍ ") . بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَتُكْسَرُ فَفِي الصِّحَاحِ: الْإِبْطُ بِسُكُونِ الْبَاءِ مَا تَحْتَ الْجَنَاحِ وَفِي الْقَامُوسِ: الْإِبْطُ مَا تَحْتَ الْمَنْكِبِ وَتُكْسَرُ الْبَاءُ، وَقَدْ يُؤَنَّثُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ بِلَالًا كَانَ رَفِيقِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَا كَانَ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ إِلَّا شَيْءٌ قَلِيلٌ بِقَدْرِ مَا يَأْخُذُهُ بِلَالٌ تَحْتَ إِبْطِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا ظَرْفٌ نَضَعُ الطَّعَامَ فِيهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) . وَفِي الْجَامِعِ بِتَقْدِيمٍ لَقَدْ أُوذِيتُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ.
(وَقَالَ) أَيِ التِّرْمِذِيُّ وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ: (وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ حِينَ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَارِبًا مِنْ مَكَّةَ) أَيْ: فَارًّا مِنَ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: ٥٠] رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ هَارِبًا إِلَى عَبْدِ يَالِيلَ بِالطَّائِفِ لِيَحْمِيَهُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ رِسَالَةَ رَبِّهِ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِ صِبْيَانَهُ فَرَمَوْهُ بِالْأَحْجَارِ حَتَّى أَدْمَوْا كَعْبَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ. وَفِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ أَنَّ خُرُوجَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الطَّائِفِ كَانَ بَعْدَ مَوْتِ خَدِيجَةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ عَشَرَةَ مِنَ النُّبُوَّةِ لِمَا نَالَهُ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ مَوْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ مَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَأَقَامَ بِهِ شَهْرًا يَدْعُو أَشْرَافَ ثَقِيفٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يُجِيبُوهُ وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ يَسُبُّونَهُ. قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَرَجَمُوا عَرَاقِيبَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى اخْتَضَبَتْ نَعْلَاهُ بِالدِّمَاءِ. زَادَ غَيْرُهُ: وَكَانَ إِذَا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ قَعَدَ إِلَى الْأَرْضِ فَيَأْخُذُونَهُ بِعَضُدَيْهِ فَيُقِيمُونَهُ، فَإِذَا مَشَى رَجَمُوهُ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَقَدْ شُجَّ فِي رَأْسِهِ شِجَاجًا.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: " لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرَائِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَإِنِّي مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ» ". وَفِي الْقَامُوسِ: هُمَا جَبَلَا مَكَّةَ أَبُو قُبَيْسٍ وَالْأَحْمَرُ أَوْ جَبَلَا مِنًى. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» " وَعَبْدُ يَالِيلَ بِتَحْتَانِيَّةٍ بَعْدَ أَلْفٍ فَلَامٍ مَكْسُورَةٍ فَتَحْتَانِيَّةٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ ابْنُ عَبْدِ كُلَالٍ بِضَمِّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ، وَكَانَتْ عَبْدُ يَالِيلَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الطَّائِفِ مِنْ ثَقِيفٍ، وَقَرْنُ الثَّعَالِبِ هُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَيُقَالُ لَهُ قَرْنُ الْمَنَازِلِ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الدُّعَاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: «لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا إِلَى الطَّائِفِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ فَأَتَى تَحْتَ ظِلِّ شَجَرَةٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي إِلَى عَدُوٍّ بِعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي ". أَيْ: يَلْقَانِي بِغِلْظَةٍ وَوَجْهٍ كَرِيهٍ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ: " أَمْ إِلَى صَدِيقٍ قَرِيبٍ كَلَّفْتَهُ أَمْرِي إِنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانًا عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكُ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ» " ثُمَّ قَوْلُهُ: (وَمَعَهُ بِلَالٌ) ، لَا يُنَافِي كَوْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَعَهُ أَيْضًا مَعَ احْتِمَالِ تَعَدُّدِ خُرُوجِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لَكِنْ أَفَادَ بِقَوْلِهِ مَعَهُ بِلَالٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْخُرُوجُ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بِلَالٌ حِينَئِذٍ (إِنَّمَا كَانَ مَعَ بِلَالٍ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَحْمِلُ تَحْتَ إِبْطِهِ) . وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَمَالِ قِلَّتِهِ وَخِفَّةِ مُؤْنَتِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute