قَالَ لَهُ جِبْرَائِيلُ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. قَالَ فَسَلْ رَبَّكَ. قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الْجَمِيلِ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: ١٧٣] وَفِي الْحِكَمِ لِابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ: رُبَّمَا اسْتَحْيَى الْعَارِفُ أَنْ يَرْفَعَ حَاجَتَهُ إِلَى مَوْلَاهُ اكْتِفَاءً بِمَشِيئَتِهِ فَكَيْفَ لَا يَسْتَحِي أَنْ يَرْفَعَهَا إِلَى خَلِيقَتِهِ؟ (وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ الْحَقَّ) أَيْ: أَتَكَلَّمَ بِهِ (وَإِنْ كَانَ مُرًّا) ، أَيْ: عَلَى السَّامِعِ أَوْ صَعْبًا عَلَيَّ (وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ) أَيْ: ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا (فِي اللَّهِ) أَيْ: فِي حَقِّهِ أَوْ فِي سَبِيلِهِ وَلِأَجْلِهِ (لَوْمَةَ لَائِمٍ) ، مَلَامَةَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ (وَأَمَرَنِي أَنْ أُكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) ، أَيْ: لِلِاسْتِعَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَإِصَابَةِ الْمُصِيبَةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَى دَفْعِ الْمُصِيبَةِ خُصُوصًا الْعُجْبُ وَالْغُرُورُ وَالْمَخِيلَةُ (فَإِنَّهُنَّ) أَيْ: هَذِهِ الْكَلِمَاتُ (مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ) . أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ كَنْزٍ مَعْنَوِيٍّ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عَرْشِ الرَّحْمَنِ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا بِحَوَلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ، أَوْ كَنْزٌ مَنْ كَنُوزِ الْجَنَّةِ لِأَنَّ الْعَرْشَ سَقْفُهَا، وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ فَإِنَّهُنَّ أَيِ: الْخِصَالُ السَّبْعُ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ إِذْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، بَلْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ وَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ مُعَاذٍ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي ذَرٍّ أَيْضًا مَرْفُوعًا: " «قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ; فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» ". وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ: سَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَنْزًا ; لِأَنَّهَا كَالْكَنْزِ فِي نَفَاسَتِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَوْ أَنَّهَا مِنْ ذَخَائِرِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ مُحَصِّلَاتِ نَفَائِسِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمَعْنَى أَنَّ قَوْلَهَا يَحْصُلُ ثَوَابًا نَفِيسًا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ فِي الْجَنَّةِ انْتَهَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ الْعَاجِلَةِ: فَمَنْ قَامَ بِهَا وَأَدْرَكَ مَعْنَاهَا وَاسْتَمَرَّ عَلَى مَبْنَاهَا، فَإِنَّهُ ظَفِرَ بِكَنْزٍ عَظِيمٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى كُنُوزٍ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهَا وَمُنْتَهَاهَا، فَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُهَا، فَقَالَ: " تَدْرِي مَا تَفْسِيرُهَا؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: " لَا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ» ". قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هِيَ كَلِمَةُ اسْتِسْلَامٍ وَتَفْوِيضٍ وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَلَيْسَ لَهُ حِيلَةٌ فِي دَفْعِ شَرٍّ وَلَا قُوَّةٌ فِي جَلْبِ خَيْرٍ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى انْتَهَى، فَيَكُونُ صَاحِبُهَا فِي مُلْكٍ جَسِيمٍ وَكَنْزٍ عَظِيمٍ حَالَ كَوْنِهِ حَاضِرًا بِقَلْبِهِ مُشَاهِدًا فِعْلَ رَبِّهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، فَصَحَّ مَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: ٤٦] جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَجَنَّةٌ فِي الْعُقْبَى، وَقَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ فِي مَعْنَى قَوْلِ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ: اسْتِغْفَارُنَا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِغْفَارٍ كَثِيرٍ أَرَادَتْ أَنَّ الِاعْتِذَارَ مِنَ الذَّنْبِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ تَسْتَحِقُّ أَنْ تَكُونَ كَبِيرَةً مِنْ دَعْوَى الْوُجُودِ الْأَصْلِيِّ، وَدَعْوَى الْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ، وَدَعْوَى الِاقْتِدَارِ الِاسْتِقْلَالِيِّ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَاءً إِلَى نَفْيِ مَا سِوَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute