[٤] بَابُ التَّوَكُّلِ وَالصَّبْرِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
٥٢٩٥ - عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ - إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: ٣ - ١٥٩] وَقَالَ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: ١٢٧] ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِتَلَازُمِهِمَا وَعَدَمِ انْفِكَاكِهِمَا، وَقَدَّمَ التَّوَكُّلَ لِأَنَّهُ مُنْتِجُ الصَّبْرِ، وَبِهِ يَحْلُو الْمُرُّ وَيَنْكَشِفُ الضُّرُّ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ كَفَاهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّوَكُّلُ عَلَى أَحَدٍ هُوَ أَنْ يَتَّخِذَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ الْقَائِمِ بِأَمْرِهِ الْمُتَكَفِّلِ بِإِصْلَاحِ حَالِهِ عَلَى قَدْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: الْمُرَادُ بِالتَّوَكُّلِ هُوَ أَنْ يَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، انْتَهَى. وَالصَّبْرُ عَلَى مَرَاتِبَ مِنْ حَبْسِ النَّفْسِ عَنِ الْمَنَاهِي وَعَنِ الْمُشْتَهَيَاتِ وَالْمَلَاهِي، وَعَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّاتِ فِي أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ، وَعَلَى تَجَرُّعِ الْمَرَارَاتِ عِنْدَ حُصُولِ الْمُصيِبَاتِ وَوُصُولِ الْبَلِيَّاتِ، هَذَا وَفِي النِّهَايَةِ يُقَالُ: تَوَكَّلَ بِالْأَمْرِ إِذَا ضَمِنَ الْقِيَامَ بِهِ، وَوَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى فُلَانٍ أَيْ: أَلْجَأْتُهُ إِلَيْهِ وَاعْتَمَدْتُ فِيهِ عَلَيْهِ، وَوَكَّلَ فُلَانٌ فَلَانًا إِذَا اسْتَكْفَاهُ أَمْرَهُ ثِقَةً بِكِفَايَتِهِ أَوْ عَجْزًا عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الْقَيِّمُ الْكَفِيلُ بِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِأَمْرِ الْمَوْكُولِ إِلَيْهِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الصَّبْرُ الْإِمْسَاكُ فِي ضِيقٍ. يُقَالُ: صَبَرْتُ الدَّابَّةَ حَبَسْتُهَا بِلَا عَلَفٍ، وَالصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ، أَوْ عَمَّا يَقْتَضِيَانِ حَبْسَهَا عَنْهُ، فَالصَّبْرُ لَفْظٌ عَامٌّ، وَرُبَّمَا خُولِفَ بَيْنَ أَسْمَائِهِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَوَاقِعِهِ، فَإِنْ كَانَ حَبْسُ النَّفْسِ لِمُصِيبَةٍ سُمِّيَ صَبْرًا لَا غَيْرُ، وَيُضَادُّهُ الْجَزَعُ، وَإِنْ كَانَ فِي مُحَارَبَةٍ سُمِّيَ شَجَاعَةً وَيُضَادُّهُ الْجُبْنُ، وَإِنْ كَانَ فِي نَائِبَةٍ مُضْجِرَةٍ سُمِّيَ رَحْبَ الصَّدْرِ وَيُضَادُّهُ الضَّجَرُ، وَإِنْ كَانَ فِي إِمْسَاكِ الْكَلَامِ سُمِّيَ كِتْمَانًا وَضِدُّهُ الْإِفْشَاءُ، وَزَادَ فِي عَيْنِ الْعِلْمِ: وَفِي فُضُولِ الْعَيْشِ زُهْدٌ وَضِدُّهُ الْحِرْصُ، وَفِي الْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا قَنَاعَةٌ وَضِدُّهُ الشَّرَهُ انْتَهَى. وَالتَّوَكُّلُ بِلِسَانِ الْعَارِفِينَ عَلَى مَا قَالَ السُّرِّيُّ السَّقْطِيُّ: هُوَ الِانْخِلَاعُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ بِلَا نِزَاعٍ. وَقَالَ ابْنُ مَسْرُوقٍ: التَّوَكُّلُ هُوَ الِاسْتِسْلَامُ لِجَرَيَانِ الْقَضَاءِ فِي الْأَحْكَامِ. وَقَالَ الْجُنَيْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: التَّوَكُّلُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فَيَكُونَ اللَّهُ لَهُ كَمَا لَمْ يَزَلْ، ثُمَّ قِيلَ الصَّبْرُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: صَبْرُ الْعَوَامِّ وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا يُكْرَهُ، وَصَبْرُ الْخَوَاصِّ وَهُوَ تَجَرُّعُ الْمَرَارَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّسٍ، وَصَبْرُ أَخَصِّ الْخَوَاصِّ وَهُوَ التَّلَذُّذُ بِالْبَلَاءِ، وَبِهِ يَصِلُ إِلَى مَرْتَبَةِ الشُّكْرِ وَغَايَةِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ وَرَدَ: «اعْبُدِ اللَّهَ عَلَى الرِّضَا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَالصَّبْرُ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ» . وَقَالَ تَعَالَى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: ١٩] .
٥٢٩٥ - (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ» ) أَيْ: مُسْتَقِلًّا عَنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ اتِّبَاعِهِمْ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سَبْعُونَ أَلْفًا (" هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ ") أَيْ: لَا يَطْلُبُونَ الرُّقْيَةَ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِ الْكَلِمَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ الصَّمَدَانِيَّةِ (" وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ") أَيْ: وَلَا يَتَشَاءَمُونَ بِنَحْوِ الطَّيْرِ، وَلَا يَأْخُذُونَ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْكَلِمَاتِ الْمَسْمُوعَاتِ عَلَامَةَ الشَّرِّ وَالْخَيْرِ، بَلْ يَقُولُونَ كَمَا وَرَدَ: «اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ. اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا أَنْتَ، وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا أَنْتَ» . (" وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ") أَيْ: فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُونَ وَيَتْرُكُونَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْجَمْعُ بَيْنَ جُمْلَتَيْ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ مِنَ الثُّنَائِي الَّذِي يُرَادُ بِهِ الِاسْتِيعَابُ لِقَوْلِهِمْ: لَا يَنْفَعُ زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو، عَلَى مَعْنَى لَا يَنْفَعُ إِنْسَانٌ مَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: هَذَا مِنْ صِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَعَوَائِقِهَا الَّذِينَ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ عَلَائِقِهَا، وَتِلْكَ دَرَجَةُ الْخَوَاصِّ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، وَأَمَّا الْعَوَامُّ فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي التَّدَاوِي وَالْمُعَالَجَاتِ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ وَانْتَظَرَ الْفَرَجَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالدُّعَاءِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَوَاصِّ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ رَخَّصَ لَهُ فِي الرُّقْيَةِ وَالْعِلَاجِ وَالدَّوَاءِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الصِّدِّيقَ لَمَّا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمًا مِنْهُ بِيَقِينِهِ وَصَبْرِهِ، وَلَمَّا أَتَاهُ الرَّجُلُ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الْحَمَامِ مِنَ الذَّهَبِ وَقَالَ: لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ، فَضَرَبَهُ بِحَيْثُ لَوْ أَصَابَهُ عَقَرَهُ وَقَالَ فِيهِ مَا قَالَ.
قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ سَبَبَ غَضَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ إِتْيَانَهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ، بَلْ إِفْشَاءَ سِرِّهِ وَإِظْهَارَ حَالِهِ بِقَوْلِهِ: لَا أَمْلِكُ غَيْرَهُ مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَوَهُّمِ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ الْمَازِرِيُّ: احْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّدَاوِيَ مَكْرُوهٌ، وَمُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي مَنَافِعِ الْأَدْوِيَةِ، وَبِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَدَاوَى، وَبِأَخْبَارِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - عَنْ كَثْرَةِ تَدَاوِيهِ، وَبِمَا عُلِمَ مِنَ الِاسْتِشْفَاءِ بَرُقْيَاهِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَى قَوْمٍ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَدْوِيَةَ نَافِعَةٌ بِطَبْعِهَا، وَلَا يَفَوِّضُونَ الْأَمْرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قُلْتُ: لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَسْطُورِ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ مَنْ كُمَّلِ الْأَوْلِيَاءِ، وَخُلَّصِ الْأَصْفِيَاءِ، فَالصَّوَابُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ الْأَوْلَى فِي حَقِّ أَهْلِ الْهِدَايَةِ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ غَيْرِ الْعَادِيَّة، وَإِنْ كَانَ جَازَ هَذَا لِلْعَوَامِّ وَبَابِ الْبِدَايَةِ، وَيُحْمَلُ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمُعَالَجَةِ بِالْأَدْوِيَةِ عَلَى اخْتِيَارِ الرُّخْصَةِ رِعَايَةً لِعَامَّةِ الْأُمَّةِ، أَوْ عَلَى مَرْتَبَةِ جَمْعِ الْجَمْعِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ مِنْ أَنَّ مُشَاهَدَةَ الْأَسْبَابِ، وَمُلَاحَظَةَ صَنَائِعِ رَبِّ الْأَرْبَابِ هُوَ الْأَكْمَلُ وَالْأَفْضَلُ عِنْدَ الْكُمَّلِ، فَتَدَبَّرْ وَتَأَمَّلْ. وَلَعَلَّ الْحَدِيثَ مُقْتَبَسٌ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: ١٠] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute