وَعَنْ أَبِيهَا - حِينَ سَمِعَهَا تَقُولُ: طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، قُلْتُ: لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا سَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ، وَزَمَانُ صُدُورِهِ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ إِزَالَةَ إِشْكَالِ مَعْنَاهُ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ هَذَا مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: ٢] كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: ٩] ، قُلْتُ: وَفِيهِ أَنَّ النَّسْخَ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ تَأْخِيرُ النَّاسِخِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْأَخْبَارِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الِاعْتِبَارِ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِلدِّرَايَةِ الْمُفَصَّلَةِ دُونَ الْمُجْمَلَةِ، قُلْتُ: هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى سَبَبِ وُرُودِ الْحَدِيثِ، قُلْتُ: وَهَذَا مُنْدَرِجٌ فِيمَا قَبْلَهُ وَالْحُكْمُ بِطَرِيقِ الْأَعَمِّ هُوَ الْوَجْهُ الْأَتَمُّ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَالشِّبَعُ وَالرَّيُّ، وَالْمَرَضُ وَالصِّحَّةُ، وَالْفَقْرُ وَالْغِنَى، وَكَذَا حَالُ الْأُمَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَأُخْرَجُ مِنْ بَلَدِي أَمْ أُقْتَلُ، كَمَا فُعِلَ بِالْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَأَتُرْمَوْنَ بِالْحِجَارَةِ أَمْ يُخْسَفُ بِكُمْ كَالْكَذَّابِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ؟ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُرِيدُ نَفْيَ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَّلِعٍ عَلَى الْمَكْنُونِ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، غَيْرَ مُتَيَقِّنٍ بِمَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْحُسْنَى، لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي يَنْقَطِعُ الْعُذْرُ دُونَهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّى يُحْمَلُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ، وَأَنَّهُ أَكْرَمُ الْخَلَائِقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute