للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

مِثْلَ يَدًا بِيَدٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" ذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ") أَيْ: سَتَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، (" حَتَّى لَوْ دَخَلُوا ") أَيْ: مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (" جُحْرَ ضَبٍّ ") وَهُوَ مِنْ أَضَيْقِ أَنْوَاعِ الْجُحْرِ وَأَخْبَثِهَا (" تَبِعْتُمُوهُمْ ") وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بُعِثَ لِإِتْمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِيُ آخِرِ الْأُمَمِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْكَمَالِ مِنهُمْ مَوْصُوفِينَ بِجَمِيعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فِي الْأَدْيَانِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ النُّقْصَانِ مِنْهُمْ فِي كَمَالِ الْمَرْتَبَةِ الْقُصْوَى مَنْعُوتِينَ بِجَمِيعِ الْخِلَالِ الذَّمِيمَةِ الْكَائِنَةِ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ ذَكَرَ أَنَّهُ ارْتَاضَ بِجَمِيعِ مَا سَمِعَ رِيَاضَاتِ أَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ، فَأُعْطِيَ لَهُ جَمِيعَ أَصْنَافِ الْكَرَامَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَيُنَاسِبُهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ التَّوَقُّفَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ فَهُوَ فِي النُّقْصَانِ، وَأَيْضًا نَوْعُ بَنِي آدَمَ مَعْجُونٌ مُرَكَّبٌ مِنَ الطَّبْعِ الْمَلَكِيِّ الرُّوحَانِيِّ الْعُلْوَانِيِّ، وَمِنَ الْطَبْعِ الْحَيَوَانِيِّ النَّفْسَانِيِّ السُّفْلَانِيِّ، فَإِنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَى الْعُلُوِّ فَيَصِيرُ إِلَى الرُّتْبَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى، وَإِنْ كَانَ يَمِيلُ إِلَى أَسْفَلَ فَيَسِيرُ فِي طَرِيقَتِهِ مِنْ مَرَاتِبِ الْبَهَائِمِ أَدْنَى، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: ١٧٩] وَهُنَا يَنْفَتِحُ بَابُ الْقَضَاءِ، وَلَا خَلَاصَ إِلَى الْقَضَاءِ إِلَّا بِقَوْلِهِ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: ٢٣] ، فَتَأَمَّلْ، (قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى) بِالنَّصْبِ أَيْ: أَتَعْنِي بِمَنْ نَتْبَعُهُمْ، أَوْ بِمَنْ قَبْلَنَا سُنَّةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؟ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (" فَمَنْ ") ؟ أَيْ إِنْ لَمْ أُرِدْهُمْ فَمَنْ (" سِوَاهُمْ ") ؟ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ الْغَالِبُونَ الْمَشْهُورُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مُنْدَرِسُونَ، فَإِذَا أُطْلِقَ مَنْ قَبْلَكُمْ، فَهُمُ الْمُرَادُ، وَكَانَ غَيْرُهُمْ غَيْرَ مَوْجُودِينَ فِي الِاعْتِبَارِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَقَالَ شَارِحٌ: (فَمَنْ) اسْتِفْهَامٌ أَيْ: فَمَنْ يَكُونُ غَيْرُهُمْ يَعْنِي الْمَتْبُوعِينَ لَكُمْ هُمْ لَا غَيْرُهُمْ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلِكِ: رُوِيَ (الْيَهُودِ) بِالْجَرِّ أَيْ: هَلْ نَتَّبِعُ سُنَنَ الْيَهُودِ، وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ عَلَى تَقْدِيرِ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ يَعْنِي: قَبْلَنَا هُمُ الْيَهُودُ، انْتَهَى. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَيِ: الْمَتْبُوعُونَ هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَمْ غَيْرُهُمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَفْظُهُ: " «لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمْ، وَحَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» ".

<<  <  ج: ص:  >  >>