بِوَادِي فَاطِمَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ شَرَّفَهَا اللَّهُ (تُرِيدُ) أَيِ: الْخَيْلُ (أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ) : مِنَ الْإِغَارَةِ، وَهِيَ النَّهْبُ وَالْبَيُّوتَةُ بِالْغَفْلَةِ يَعْنِي أَصْحَابَهَا عَلَى أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: ٨٢] ، (أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ) ؟ أَيْ مُصَدِّقِينَ لِي فِي قَوْلِي (قَالُوا: نَعَمْ) أَيْ: كُنَّا نُصَدِّقُكَ ; وَسَبَبُهُ أَنَّا فِي جَمِيعِ عُمْرِنَا (مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا) .
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: ضُمِّنَ جَرَّبَ مَعْنَى الْإِلْقَاءِ وَعَدَّاهُ بِعَلَى أَيْ: مَا أَلْقَيْنَا عَلَيْكَ قَوْلًا مُجَرِّبِينَ لَكَ فِيهِ هَلْ تَكْذِبُ فِيهِ أَمْ لَا، مَا سَمِعْنَاهُ مِنْكَ إِلَّا صِدْقًا (قَالَ: " فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ") أَيْ: قَبْلَ نُزُولِ عَذَابٍ عَظِيمٍ وَعِقَابٍ أَلِيمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِي يَنْزِلْ عَلَيْكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: بَيْنَ يَدَيْ ظَرْفٌ لِغَدٍ نَذِيرٌ، وَهُوَ بِمَعْنَى قُدَّامَ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَكُونُ قُدَّامَ أَحَدٍ يَكُونُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ الْمُسَامَتَتَيْنِ لِيَمِينِهِ وَشَمَالِهِ، وَفِيهِ تَمْثِيلٌ، مِثْلَ إِنْذَارِهِ الْقَوْمَ بِعَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى النَّازِلِ عَلَى الْقَوْمِ بِنَذِيرِ قَوْمٍ يَتَقَدَّمُ جَيْشَ الْعَدُوِّ فَيُنْذِرُهُمْ، (فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ) : مَشْهُورٌ بِكُنْيَتِهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزَّى، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (تَبًّا لَكَ) أَيْ: خُسْرَانًا وَهَلَاكًا، وَنَصْبُهُ بِعَامِلٍ مُضْمِرٍ، قَالَهُ الْقَاضِي، فَهُوَ إِمَّا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالْمَعْنَى: تَبَّ تَبًّا، أَوْ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ أَيْ: أَلْزَمَكَ اللَّهُ هَلَاكًا وَخُسْرَانًا وَأَلْزَمَ تَبًّا لَكَ (سَائِرَ الْيَوْمَ) أَيْ: وَبَاقِي الْأَوْقَاتِ أَوْ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ.
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: مَنْ ذَهَبَ فِي " سَائِرِ " إِلَى الْبَقِيَّةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُصِيبٍ ; لِأَنَّ الْحَرْفَ مِنَ السَّيْرِ لَا مِنَ السُّورِ، وَفِي أَمْثَالِهِمْ فِي الْيَأْسِ مِنَ الْحَاجَةِ: أَسَائِرٌ الْيَوْمَ وَقَدْ زَالَ الظَّهْرُ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ نَظَرٌ ; لِأَنَّهُ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: السَّائِرُ مَهْمُوزٌ: الْبَاقِي، وَالنَّاسُ يَسْتَعْمِلُونَ فِي مَعْنَى الْجَمِيعِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي الْحَدِيثِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنَى بَاقِي الشَّيْءِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَصْحِيحِ مَا فِي النِّهَايَةِ مَا فِي أَسَاسِ الْبَلَاغَةِ، فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي بَابِ السِّينِ مَعَ الْهَمْزَةِ قَائِلًا: سَارَ الشَّارِبُ فِي الْإِنَاءِ سُورًا وَسُورَةً أَيْ: بَقِيَّةً، وَفَى الْمَثَلِ: أَسَائِرٌ الْيَوْمَ، وَقَدْ زَالَ الظَّهْرُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، فَعَلَى هَذَا: الْمُرَادُ بِسَائِرِ الْيَوْمِ بَقِيَّةُ الْأَيَّامِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فِي الْقَامُوسِ: السُّؤْرُ الْبَقِيَّةُ وَالْفَضْلَةُ، وَأَسْأَرَ أَبْقَاهُ كَسَأْرٍ كَمَنْعٍ وَالْفَاعِلُ فِيهَا سَائِرٌ وَالْقِيَاسُ مُسْئِرٌ، وَيَجُوزُ وَالسَّائِرُ الْبَاقِي لَا الْجَمِيعُ كَمَا تَوَهَّمَ جَمَاعَاتٌ، أَوْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَحْوَصِ:
فَجَلَّتْهَا لَنَا لُبَابَةُ لَمَّا وَفَدَ الْقَوْمُ سَائِرَ
وَضَافَ أَعْرَابِيُّ قَوْمًا فَأَمَرُوا الْجَارِيَةَ بِتَطْيِيبِهِ، فَقَالَ: بَطْنِي عَطِّرِي وَسَائِرِي ذَرِي. وَأُغِيرَ عَلَى قَوْمٍ فَاسْتَصْرَخُوا بَنِي عَمِّهِمْ فَأَبْطَأُوا عَنْهُمْ حَتَّى أُسِرُوا، وَذُهِبَ بِهِمْ، ثُمَّ جَاءُوا يَسْأَلُونَ عَنْهُمْ فَقَالَ لَهُمُ الْمَسْئُولُ: أَسَائِرٌ الْيَوْمَ وَقَدْ زَالَ الظَّهْرُ، أَيْ: تَطْمَعُونَ فِيمَا بَعْدَ وَقَدْ تَبَيِّنَ لَكُمُ الْيَأْسُ ; لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ حَاجَتُهُ الْيَوْمَ بِأَسْرِهِ وَزَالَ الظَّهْرُ وَجَبَ أَنْ يَيْأَسَ مِنْهَا بِالْغُرُوبِ، (أَلِهَذَا) أَيْ: هَذَا الِاسْتِخْبَارُ وَالْإِخْبَارُ (جَمَعْتَنَا) ؟ أَيْ بِالْمُنَادَاةِ (فَنَزَلَتْ: تَبَتْ أَيْ هَلَكَتْ وَخَسِرَتْ {يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: ١] بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ: نَفْسُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: ١٩٥] أَيْ: بِأَنْفُسِكُمْ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمَا دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا خُصَّتَا لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: أَلِهَذَا دَعَوْتَنَا؟ أَخَذَ حَجَرًا لِيَرْمِيَهُ بِهِ فَنَزَلَتْ، إِنَّمَا كَنَّاهُ وَالْكُنْيَةُ تَكْرِمَةٌ لِاشْتِهَارِهِ بِكُنْيَتِهِ ; أَوْ لِأَنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الْعُزَّى فَاسْتَكْرَهَ ذِكْرَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ كَانَتِ الْكُنْيَةُ أَوْفَقَ بِحَالِهِ، وَإِنْ كَانَ كُنِّيَ لِكَمَالِ جَمَالِهِ، وَقُرِئَ أَبُو لَهَبٍ كَمَا قِيلَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَصَرَ عَلَى الْوَاوِ فِي الْأَسْمَاءِ السِّتَّةِ، كَمَا قَصَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْأَلْفِ فِيهَا كَقَوْلِهِ: إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا، وَتَبَّ: إِخْبَارٌ بَعْدَ خَبَرٍ لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّعْبِيرِ بِالْمَاضِي لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، أَوِ الْأَوَّلُ دُعَاءٌ وَالثَّانِي إِخْبَارٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute