للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

أَنَّ رِعَايَةَ الِاحْتِمَاءِ أَوْلَى فِي دَفْعِ الدَّاءِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ، وَأَنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، وَفِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ إِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ حَيْثُ نَفَى السِّوَى ثُمَّ أَثْبَتَ الْمَوْلَى، بَلْ مَدَارُ جُلِّ مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى النُّعُوتِ التَّنْزِيهِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: ١١] دُونَ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ لِظُهُورِ وُجُودِهَا فِي خَالِقِ الْأَشْيَاءِ بِالضَّرُورَةِ الْعَقْلِيَّةِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ بِالشَّرِّ الْفِتْنَةُ، وَوَهَنُ عُرَى الْإِسْلَامِ، وَاسْتِيلَاءُ الضَّلَالَةِ، وَفُشُوُّ الْبِدْعَةِ، وَالْخَيْرُ عَكْسُهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نَقَلَهُ الرَّاوِي عَنْهُ.

(قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ) أَيْ أَيَّامٍ غَلَبَ فِيهَا الْجَهْلُ بِالتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، فَقَوْلُهُ: (وَشَرٍّ) عَطْفٌ تَفْسِيرِيٌّ، أَوِ الْمَعْنِيُّ بِهِ الْكُفْرُ، فَهُوَ تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ، (فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ) ، أَيِ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ بِبَرَكَةِ بِعْثَتِكَ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ بِالشَّرِّ عَنَّا بِهَدْمِ قَوَاعِدِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ; وَلَعَلَّهُ حَذَفَ وَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ، لَا سِيَّمَا وَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، (فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ) أَيِ: الثَّابِتُ (مِنْ شَرٍّ؟) أَيْ مِنْ حُدُوثِ بَعْضِ شَرٍّ (قَالَ: " نَعَمْ ". قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: " نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ ") بِفَتْحَتَيْنِ، أَيْ: كُدُورَةٌ إِلَى سَوَادٍ، وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَكُونَ خَيْرًا صَفْوًا بَحْتًا، بَلْ يَكُونُ مَشُوبًا بِكُدُورَةٍ وَظُلْمَةٍ، (قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: " قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ ") بِتَشْدِيدِ النُّونِ الْأُولَى أَيْ: يَعْتَقِدُونَ (" بِغَيْرِ سُنَّتِي، وَيَهْدُونَ ") أَيْ: يَدُلُّونَ النَّاسَ (بِغَيْرِ هَدْيِي) أَيْ: بِغَيْرِ طَرِيقَتِي، وَيَتَّخِذُونَ سِيرَةً غَيْرَ سِيرَتِي (" تَعْرِفُ مِنْهُ وَتُنْكِرُ ") قَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: تَرَى فِيهِمْ مَا تَعْرِفُهُ أَنَّهُ مِنْ دِينِي، وَتَرَى أَيْضًا مَا تُنْكِرُ أَنَّهُ دِينِي، قَالَ الْأَشْرَفُ: يُعْرَفُ مِنْهُمُ الْمُنْكَرُ بِأَنْ يَصْدُرَ الْمُنْكَرُ عَنْهُمْ، وَتُنْكِرُ هُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، أَيْ: أَنْكِرْ عَلَيْهِمْ صُدُورَ الْمُنْكَرِ عَنْهُمْ.

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: " نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ " أَيْ: تَعْرِفُ فِيهِمُ الْخَيْرَ فَتَقْبَلُ وَالشَّرَّ فَتُنْكِرُ، فَهُوَ مِنَ الْمُقَابَلَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: " يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِي " فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ: اعْرِفْ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَأَنْكِرْ، وَالْخِطَابُ فِي - تَعْرِفُ وَتُنْكِرُ - مِنَ الْخِطَابِ الْعَامِّ. أَقُولُ: وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى ; إِذْ لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ لَهُ قَابِلِيَّةُ مَعْرِفَةِ الْمَعْرُوفِ وَإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ، فَالْخِطَابُ خَاصٌّ لِحُذَيْفَةَ وَأَمْثَالِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّيَانَةِ. قِيلَ: الْمُرَادُ بِالشَّرِّ الْأَوَّلِ الْفِتَنُ الَّتِي وَقَعَتْ عِنْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَمَا بَعْدَهُ، وَبِالْخَيْرِ الثَّانِي مَا وَقَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِالَّذِينَ تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ الْأُمَرَاءُ بَعْدَهُ، فَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالسُّنَّةِ وَالْعَدْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو إِلَى الْبِدْعَةِ وَيَعْمَلُ بِالْجَوْرِ، أَوْ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ بِالْمَعْرُوفِ تَارَةً وَيَعْمَلُ بِالْمُنْكَرِ أُخْرَى، بِحَسَبِ مَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ تَتَبُّعِ الْهَوَى، وَتَحْصِيلِ غَرَضِهِمْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، لَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَحَرِّي الْأَحْرَى وَرِعَايَةَ الدَّارِ الْأُخْرَى، كَمَا عَلَيْهِ بَعْضُ أُمَرَاءِ زَمَانِنَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الشَّرِّ الْأَوَّلِ فِتْنَةُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَا بَعْدَهُ، وَبِالْخَيْرِ الثَّانِي مَا وَقَعَ مِنْ صُلْحِ الْحَسَنِ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ، وَبِالدَّخَنِ مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ مِنْ بَعْضِ الْأُمَرَاءِ كَزِيَادٍ بِالْعِرَاقِ، وَخِلَافُ مَنْ خَالَفَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَوَارِجِ.

(قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: " نَعَمْ، دُعَاةٌ ") : جَمْعُ دَاعٍ (عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ) قَالَ الْأَشْرَفُ: أَيْ جَمَاعَةٌ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الضَّلَالَةِ وَيَصُدُّوهُمْ عَنِ الْهُدَى بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّلْبِيسِ، وَمِنَ الْخَيْرِ إِلَى الشَّرِّ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الزُّهْدِ إِلَى الرَّغْبَةِ.

جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعْوَةَ الدُّعَاةِ وَإِجَابَةَ الْمَدْعُوِّينَ سَبَبًا لِإِدْخَالِهِمْ إِيَّاهُمْ فِي جَهَنَّمَ،

<<  <  ج: ص:  >  >>