(" أَلَا ") : لِلتَّنْبِيهِ زِيَادَةً لِلتَّأْكِيدِ (" فَإِذَا وَقَعَتْ ") أَيِ: الْفِتَنُ أَوْ تِلْكَ الْفِتْنَةُ (" فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ ") أَيْ: فِي الْبَرِّيَّةِ (" فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ ") أَيْ: عَقَارٌ أَوْ مَزْرَعَةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ الْخَلْقِ (" فَيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ ") فَإِنَّ الِاعْتِزَالَ وَالِاشْتِغَالَ بِخُوَيِّصَةِ الْحَالِ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ ; لِوُقُوعِ عُمُومِ الْفِتْنَةِ الْعَمْيَاءِ بَيْنَ الرِّجَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِنِ السَّلَامَةَ مِنْ لَيْلَى لَا وَجَارَتِهَا ... أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَى حَالٍ بِوَادِيهَا
(فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي (مَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ إِبِلٌ وَلَا غَنَمٌ وَلَا أَرْضٌ؟) أَيْ: فَأَيْنَ يَذْهَبُ أَوْ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ (قَالَ: " يَعْمِدُ ") بِكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: يَقْصِدُ (" إِلَى سَيْفِهِ ") أَيْ: إِنْ كَانَ لَهُ (" فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ ") أَيْ: فَيَضْرِبُ عَلَى جَانِبِ سَيْفِهِ الْحَادِّ (" بِحَجَرِ ") ، وَالْمَعْنَى: فَلْيَكْسِرْ سِلَاحَهُ كَيْلَا يَذْهَبَ بِهِ إِلَى الْحَرْبِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الْحُرُوبَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُهَا، (" ثُمَّ لِيَنْجُ ") بِكَسْرِ اللَّامِ وَيُسَكَّنُ وَبِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَضَمِّ الْجِيمِ، أَيْ: لِيَفِرَّ وَيُسْرِعْ هَرَبًا حَتَّى لَا تُصِيبَهُ الْفِتْنَةُ، (" إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ ") بِفَتْحِ النُّونِ وَالْمَدِّ، أَيِ: الْإِسْرَاعُ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: يَعْمِدُ إِلَخْ عِبَارَةٌ عَنْ تَجَرُّدِهِ تَجَرُّدًا تَامًّا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ مِنْ مَهَامِّهِ فَلْيَنْجُ بِرَأْسِهِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَمْلَ قَوْلِهِ: فَلْيَنْجُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ مِنَ النَّجَاةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِنِ اسْتَطَاعَ النِّجَاءَ، حَيْثُ لَمْ يَقُلْ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاةَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ حَاصِلُ الْمَعْنَى مِنْ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَادَّةِ وَالْمَبْنَى، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (" اللَّهُمَّ ") أَيْ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْفِتَنِ وَالتَّحْذِيرِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي مِحَنِ ذَلِكَ الزَّمَنِ، اللَّهُمَّ أَيْ: يَا اللَّهُ (" هَلْ بَلَّغْتُ؟ ") أَيْ: قَدْ بَلَّغْتُ إِلَى عِبَادِكَ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ أُبَلِّغَهُ إِيَّاهُمْ (ثَلَاثًا) : مَصْدَرٌ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ أَيْ: قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) أَيْ: أَخْبِرْنِي (إِنْ أُكْرِهْتُ) أَيْ: أُخِذْتُ بِالْكُرْهِ وَأُجْبِرْتُ (حَتَّى يَنْطَلِقَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: يُذْهَبُ (بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ) أَيْ: صَفَّيِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ (فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ (يَجِيءُ سَهْمٌ) بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ عَطْفًا عَلَى الْمَاضِي (فَيَقْتُلُنِي؟) : الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْأَخِيرِ وَالْإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَشْتَمِلَ أَيْضًا عَلَى الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ، وَالْمَعْنَى: فَمَا حُكْمُ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ؟ (قَالَ: يَبُوءُ) أَيْ: يَرْجِعُ الْقَاتِلُ، وَقِيلَ: الْمُكْرَهُ (بِإِثْمِهِ) أَيْ: بِعُقُوبَةِ مَا فَعَلَهُ مِنْ قَبْلُ عُمُومًا (وَإِثْمِكَ) أَيْ: وَبِعُقُوبَةِ قَتْلِهِ إِيَّاكَ خُصُوصًا، أَوِ الْمُرَادُ بِإِثْمِهِ قَصْدُهُ الْقَتْلَ وَبِإِثْمِكَ لَوْ مَدَدْتَ يَدَكَ إِلَيْهِ، أَوِ الْمُرَادُ بِإِثْمِكَ سَيِّئَاتِكَ الَّتِي فَعَلْتَهَا بِأَنْ تُوضَعَ فِي رَقَبَةِ الْقَاتِلِ بَعْدَ فَقْدِ حَسَنَاتِهِ عَلَى مَا وَرَدَ (وَيَكُونُ) أَيْ: هُوَ (" مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ") ، قَالَ تَعَالَى: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة: ٢٩] وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ: وَأَنْتَ مِنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَفْهُومَ مِنْهُ، وَتُرِكَ لِلِاكْتِفَاءَ احْتِيَاطًا لِتَبَادُرِ الْفَهْمِ إِلَى الْخِطَابِ الْمُعَيَّنِ، لَا الْمَفْرُوضُ الْمُقَدَّرُ الْمُرَادُ بِهِ الْخِطَابُ الْعَامُّ عَلَى طَرِيقِ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ الْحُكْمُ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: ٢٧] إِلَخْ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُنْ خَيْرَ ابْنَيْ آدَمَ "، وَفِي رِوَايَةٍ: " كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ ". قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ يَبُوءُ إِلَخْ، فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَرَادَ بِمِثْلِ إِثْمِكَ عَلَى الِاتِّسَاعِ، أَيْ: يَرْجِعُ بِإِثْمِهِ وَمِثْلَ إِثْمِكَ الْمُقَدَّرِ لَوْ قَتَلْتَهُ، وَثَانِيهُمَا: أَرَادَ بِمِثْلِ قَتْلِكَ، عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، وَإِثْمِهِ السَّابِقِ عَلَى الْقَتْلِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute