للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

قَالَ الْمُغْنِي: وَالْكَسْرُ فِي النِّسْبَةِ أَفْصَحُ مِنَ الْفَتْحِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ لِمُجَاوِرَةِ كَسْرِ الرَّاءِ، هَذَا وَقَدْ قَالَ الْأَشْرَفُ: أَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذِهِ الْمَدِينَةِ مَدِينَةَ السَّلَامِ بَغْدَادُ، فَإِنَّ دِجْلَةَ هِيَ الشَّطُّ، وَجِسْرُهَا فِي وَسَطِهَا لَا فِي وَسَطِ الْبَصْرَةِ، وَإِنَّمَا عَرَّفَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَصْرَةَ ; لِأَنَّ فِي بَغْدَادَ مَوْضِعًا خَارِجِيًّا مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ بَابِهِ يُدْعَى بَابُ الْبَصْرَةِ، فَسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَغْدَادَ بِاسْمِ بَعْضِهَا، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: ٨٢] ، وَبَغْدَادُ مَا كَانَتْ مَبْنِيَّةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَلَا كَانَ مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (" وَيَكُونُ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ") بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ، بَلْ كَانَ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُرًى مُتَفَرِّقَةٌ بَعْدَمَا خُرِّبَتْ مَدَائِنُ كِسْرَى مَنْسُوبَةٌ إِلَى الْبَصْرَةِ مَحْسُوبَةٌ مِنْ أَعْمَالِهَا، هَذَا وَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يَسْمَعْ فِي زَمَانِنَا بِدُخُولِ التُّرْكِ بَصْرَةَ قَطُّ عَلَى سَبِيلِ الْقِتَالِ وَالْحَرْبِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ بَعْضًا مِنْ أُمَّتِي يَنْزِلُونَ عِنْدَ دِجْلَةَ، وَيَتَوَطَّنُونَ ثَمَّةَ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِصْرًا مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ بَغْدَادُ، (" وَإِذَا كَانَ ") : اسْمُهُ مُضْمَرٌ (" فِي آخِرِ الزَّمَانِ جَاءَ بَنُو قَنْطُورَاءَ ") : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ النُّونِ مَقْصُورًا، وَقَدْ يُمَدُّ أَيْ: يَجِيئُونَ لِيُقَاتِلُوا أَهْلَ بَغْدَادَ، وَقَالَ بِلَفْظٍ: جَاءَ دُونَ يَجِيءُ ; إِيذَانًا بِوُقُوعِهِ، فَكَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، وَبَنُو قَنْطُورَاءَ اسْمُ أَبِي التُّرْكِ، وَقِيلَ اسْمُ جَارِيَةٍ كَانَتْ لِلْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا جَاءَ مِنْ نَسْلِهِمُ التُّرْكُ، وَفِيهِ نَظَرٌ ; فَإِنَّ التُّرْكَ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ، وَهُوَ قَبْلَ الْخَلِيلِ بِكَثِيرٍ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ كَانَتْ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْجَارِيَةِ بِنْتٌ مَنْسُوبَةٌ لِلْخَلِيلِ ; لِكَوْنِهَا مِنْ بَنَاتِ أَوْلَادِهِ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا وَاحِدٌ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ فَأَتَتْ بِأَبِي هَذَا الْجِيلِ، فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ بِهَذَا الْقَالِ وَالْقِيلِ، وَيَصِحُّ انْتِسَابُهُمْ إِلَى يَافِثَ وَالْخَلِيلِ. (" عِرَاضُ الْوُجُوهِ ") : بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (" صِغَارُ الْأَعْيُنِ، حَتَّى يَنْزِلُوا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ، فَيَتَفَرَّقُ أَهْلُهَا ثَلَاثَ فِرَقٍ ") : بِكَسْرٍ فَفَتْحٍ جَمْعُ فِرْقَةٍ، (" فِرْقَةٌ ") : بِالرَّفْعِ، وَيَجُوزُ نَصْبُهَا (" يَأْخُذُونَ فِي أَذْنَابِ الْبَقَرِ ") : مِنْ أَخَذَ فِي الشَّيْءِ شَرَعَ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: (" فِي الْبَرِّيَّةِ ") تَتْمِيمٌ وَتَذْيِيلٌ ; لِأَنَّ أَخْذَ أَذْنَابِ الْبَقَرِ لَا يَكُونُ غَالِبًا إِلَّا فِي الْبَرِّيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمَدِينَةِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْبَحْرِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: ٤١] ، أَوِ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فِي الْبَرِّيَّةِ اخْتِيَارُ الْعُزْلَةِ، وَإِيثَارُ الصَّحْرَاءِ وَالْخَلَاءِ عَلَى الْبَلَدِ، وَاجْتِمَاعُ الْمَلَأِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ صِفَةٌ أَوْ حَالٌ، وَعَلَى الثَّانِي بَدَلُ كُلٍّ أَوْ بَعْضٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (فِي) تَعْلِيلِيَّةً وَقَوْلُهُ: (" وَهَلَكُوا ") فَذْلَكَةً وَنَتِيجَةً لِأَفْعَالِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِرْقَةً يُعْرِضُونَ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ ; هَرَبًا مِنْهَا ; وَطَلَبًا لِخَلَاصِ أَنْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ، وَيُحْمَلُونَ عَلَى الْبَقَرِ فَيَهِيمُونَ فِي الْبَوَادِي، وَيَهْلِكُونَ فِيهَا، أَوْ يُعْرِضُونَ عَنِ الْمُقَاتَلَةِ، وَيَشْتَغِلُونَ بِالزِّرَاعَةِ، وَيَتْبَعُونَ الْبَقَرَ لِلْحِرَاثَةِ إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ فَيَهْلِكُونَ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: يَأْخُذُونَ فِي أَذْنَابِ الْبَقَرِ عَلَى مَعْنَى يُوقِعُونَ الْأَخْذَ فِي الْأَذْنَابِ، كَقَوْلِهِ: يُجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهِا نَصْلِي

وَكَأَنَّهُمْ يُبَالِغُونَ فِي الِاشْتِغَالِ وَلَا يَعْبَأُونَ بِأَمْرٍ آخَرَ، أَوْ يُوغِلُونَ فِي السَّيْرِ خَلْفَهَا إِلَى الْبِلَادِ الشَّاسِعَةِ فَيَهْلِكُونَ فِيهَا. (" وَفِرْقَةٌ يَأْخُذُونَ ") أَيْ: يَطْلُبُونَ أَوْ يَقْبَلُونَ الْأَمَانَ مِنْ بَنِي قَنْطُورَاءَ (" لِأَنْفُسِهِمْ وَهَلَكُوا ") أَيْ: بِأَيْدِيهِمْ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفِرْقَةِ الْمُسْتَعْصِمُ بِاللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، طَلَبُوا الْأَمَانَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ بَغْدَادَ، وَهَلَكُوا بِأَيْدِيهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ. وَقَالَ شَارِحٌ: أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبَصْرَةِ بَغْدَادَ ; لِأَنَّ بَغْدَادَ كَانَتْ قَرْيَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قُرَى الْبَصْرَةِ، إِطْلَاقًا لِاسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ، فَالْوَاقِعَةُ وَقَعَتْ كَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ أَرَادَ الْبَصْرَةَ الْمَعْهُودَةَ، فَلَعَلَّهُ يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ ; إِذْ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ الْكُفَّارَ نَزَلُوا بِهَا قَطُّ لِلْقِتَالِ. (" وَفِرْقَةٌ يَجْعَلُونَ ذَرَارِيَّهُمْ ") أَيْ: أَوْلَادَهُمُ الصِغَارَ وَنِسَاءَهُمْ (" خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَيُقَاتِلُونَهُمْ وَهُمُ الشُّهَدَاءُ ") أَيِ: الْكَامِلُونَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِرْقَةً ثَالِثَةً هُمُ الْغَازِيَةُ الْمُجَاهِدَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَاتَلُوا التُّرْكَ قَبْلَ ظُهُورِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَاسْتُشْهِدَ مُعْظَمُهُمْ، وَنَجَتْ مِنْهُمْ شِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَشْرَفُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَهَذَا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي صَفَرَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>