وَأَضَاءَتْ غَيْرَهَا، وَبُصَرَى بِضَمِّ الْبَاءِ مَدِينَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِالشَّامِ، وَهِيَ مَدِينَةُ حَوْرَانَ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِمَشْقَ نَحْوُ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ، وَقَدْ خَرَجَتْ فِي زَمَانِنَا نَارٌ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَانَتْ نَارًا عَظِيمَةً خَرَجَتْ مِنْ جَنْبِ الْمَدِينَةِ - شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى - الشَّرْقِيِّ وَرَاءَ الْحَرَّةِ، وَتَوَاتَرَ الْعِلْمُ بِهَا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الشَّامِ، وَسَائِرِ الْبُلْدَانِ، وَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: رَأَى هَذِهِ النَّارَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ رُؤْيَةً لَا مِرْيَةَ فِيهَا وَلَا خَفَاءَ، فَإِنَّهَا لَبِثَتْ نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ يَوْمًا تَتَّقِدُ وَتَرْمِي بِالْأَحْجَارِ الْمُجْمَرَةِ بِالنَّارِ مِنْ بَطْنِ الْأَرْضِ إِلَى مَا حَوْلَهَا، مُشَاكِلَةً لِلْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ نَارِ جَهَنَّمَ: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ - كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات: ٣٢ - ٣٣] ، وَقَدْ سَالَ مِنْ يَنْبُوعِ النَّارِ فِي تِلْكَ الصَّحَارَى مَدٌّ عَظِيمٌ شَبِيهٌ بِالصُّفْرِ الْمُذَابِ، فَيَجْمُدُ الشَّيْءَ بَعْدَ الشَّيْءِ، فَيُوجَدُ شَبِيهًا بِخَبَثِ الْحَدِيدِ.
قَالَ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا عَلَيْهَا، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي يَلِيهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ وَهِيَ لَمْ تَحْدُثْ بَعْدُ» ".
قُلْتُ: لَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَوَّلَ الْأَشْرَاطِ مُطْلَقًا بَلِ الْأَشْرَاطَ الْمُتَّصِلَةَ بِالسَّاعَةِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهَا تَقُومُ عَمَّا قَرِيبٍ، فَإِنَّ مِنَ الْأَشْرَاطِ بَعْثَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ تَتَقَدَّمْهَا تِلْكَ النَّارُ، أَوْ أَرَادَ بِالنَّارِ نَارَ الْحَرْبِ وَالْفِتَنِ كَفِتْنَةِ التَّتَرِ، فَإِنَّهَا سَارَتْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . قَالَ مِيرَكُ نَقْلًا عَنِ التَّصْحِيحِ: وَالْعَجَبُ مِنَ الْحَاكِمِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ، وَأَسْنَدَهُ مِنْ طَرِيقِ رُشْدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عُقْبَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَسَاقَهُ بِلَفْظِهِ: فَاسْتَدْرَكَهُ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ فِيهِمَا، وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا رِوَايَتُهُ لَهُ مِنْ طَرِيقِ رُشْدِ بْنِ سَعْدٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ اهـ. وَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ بِأَنَّهُ أَتَى بِإِسْنَادٍ غَيْرِ إِسْنَادِ الصَّحِيحَيْنِ، فَيَكُونُ مُسْتَدْرِكًا لَا مُسْتَدْرَكًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ رُشْدٍ، وَلَعَلَّهُ قَوِيَ عِنْدَهُ أَوْ لَهُ مُتَابِعٌ أَوْ مُشَاهِدٌ يَنْجَبِرُ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَقَلُّ رَاوٍ أَجْمَعُوا عَلَى ضَعْفِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute