وَقِيلَ: يَضَعُ الْجِزْيَةَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مُحْتَاجٌ يَقْبَلُ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ ; لِكَثْرَةِ الْمَالِ، وَقِلَّةِ أَهْلِ الْحِرْصِ وَالْآمَالِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (" وَيَفِيضُ ") : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِنْ فَاضَ الْمَاءُ يَفِيضُ، إِذَا كَثُرَ حَتَّى سَالَ كَالْوَادِي عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، أَيْ يَكْثُرُ (" الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ ") أَيْ: مِنَ الرِّجَالِ، (" حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ ") أَيِ: الْوَاحِدَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الْعِبَادَةِ، وَالْمُرَادُ بِالسَّجْدَةِ نَفْسُهَا أَوِ الصَّلَاةُ بِكَمَالِهَا لِتَضَمُّنِهَا لَهَا، (" خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ") ، قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: حَتَّى الْأُولَى مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ: وَيَفِيضُ الْمَالُ، وَالثَّانِيَةُ غَايَةٌ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ إِلَخْ، أَقُولُ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الثَّانِيَةَ بَدَلٌ مِنَ الْأُولَى، أَوْ غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعِلَّةِ لَهَا. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ تَزَلِ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَرْغَبُونَ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَيَزْهَدُونَ عَنِ الدُّنْيَا، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
(ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: ١٥٩] الْآيَةَ) : بِالنَّصْبِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهَا وَخَفْضُهَا وَقَدَّمْنَا وَجْهَهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ عَلَى نُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي آخِرِ الزَّمَانِ ; مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ، وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّ الضَّمِيرَيْنِ فِي بِهِ وَقَبْلَ مَوْتِهِ لِعِيسَى، وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي زَمَانِ نُزُولِهِ، فَتَكُونُ الْمِلَّةُ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مِلَّةُ الْإِسْلَامِ انْتَهَى.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ قَبْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ، وَهُوَ لَا يَنْفَعُ، فَضَمِيرُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَضَمِيرُ مَوْتِهِ لِلْكِتَابِيِّ، وَقِيلَ: كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤْمِنُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِعِيسَى، وَأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَلَا يَنْفَعُ، وَقِيلَ: ضَمِيرُ بِهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَيْ: كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤْمِنُ بِهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا يَنْفَعُ، وَالْأُولَى مَذْهَبُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْآيَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute