أَذَرْكَ، وَالْمَعْنَى: أَلَمْ أَدَعْكَ وَلَمْ أُمَكِّنْكَ عَلَى قَوْمِكَ (تَرْأَسُ) أَيْ: تَكُونُ رَئِيسًا عَلَى قَوْمِكَ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ، (وَتَرْبَعُ) ؟ أَيْ: تَأْخُذُ رِبَاعَهُمْ وَهُوَ رُبُعُ الْغَنِيمَةِ ; وَكَانَ مُلُوكُ الْجَاهِلِيَّةِ يَأْخُذُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ، (فَيَقُولُ: بَلَى) أَيْ: فِي كُلٍّ أَوْ فِي الْكُلِّ (قَالَ: فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (أَفَظَنَنْتَ) أَيْ: أَفَعَلِمْتَ (أَنَّكَ مُلَاقِيَّ) ؟ بِضَمِّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ الْعَائِدَةِ بِحَذْفِ التَّنْوِينِ وَالثَّانِيَةُ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، (فَيَقُولُ لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي قَدْ أَنْسَاكَ) أَيِ: الْيَوْمَ أَتْرُكُكَ مِنْ رَحْمَتِي (كَمَا نَسِيتَنِي) أَيْ: فِي الدُّنْيَا مِنْ طَاعَتِي. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ، يَعْنِي سَوَّدْتُكَ وَزَوَّجْتُكَ، وَفَعَلْتُ بِكَ مِنَ الْإِكْرَامِ حَتَّى تَشْكُرَنِي وَتَلْقَانِي لِأَزِيدَ فِي الْإِنْعَامِ، وَأُجَازِيَكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا نَسِيتَنِي فِي الشُّكْرِ نَسِينَاكَ وَتَرَكْنَا جَزَاءَكَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [الفاتحة: ١٢٦ - ٢٩٤٦٨] وَنِسْبَةُ النِّسْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا مُشَاكَلَةٌ أَوْ مَجَازٌ عَنِ التَّرْكِ. (ثُمَّ يَلْقَى) أَيِ: الرَّبُّ (الثَّانِيَ) أَيْ: مِنَ الْعَبْدِ (فَذَكَرَ مِثْلَهُ) أَيْ: قَالَ الرَّاوِي: ذَكَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الثَّانِي مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ سُؤَالِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَجَوَابِهِ. (ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ آمَنْتُ بِكَ، وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي) أَيْ: يَمْدَحُ الثَّالِثُ عَلَى نَفْسِهِ (بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ) أَيِ: الرَّبُّ (هَاهُنَا إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذًا جَوَابٌ وَجَزَاءٌ، وَالتَّقْدِيرُ: إِذًا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ بِمَا أَثْنَيْتَ إِذًا فَأُثْبِتَّ هُنَا ; كَيْ نُرِيَكَ أَعْمَالَكَ بِإِقَامَةِ الشَّاهِدِ عَلَيْهَا، قَالَ شَارِحٌ: أَيْ يَقُولُ: إِذًا تُجْزَى بِأَعْمَالِكَ هَاهُنَا، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ أَقَرَّ الثَّالِثُ بِظَنِّهِ لِقَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَّ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ فَيَقُولُ: هَاهُنَا إِذًا، أَيْ قِفْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِذَا ذَكَرْتَ أَعْمَالَكَ حَتَّى تَتَحَقَّقَ خِلَافَ مَا زَعَمْتَ، (ثُمَّ يُقَالُ: الْآنَ نَبْعَثُ شَاهِدًا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ) أَيِ: الْعَبْدُ الثَّالِثُ (فِي نَفْسِهِ: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ) : حَالٌ تَقْدِيرُهُ يَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ قَائِلًا مَنْ ذَا الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ (فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ) أَيْ: فَمِهِ (فَيُقَالُ) : وَفِي نُسْخَةٍ وَيُقَالُ (لِفَخِذِهِ انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ) أَيِ: الْمُتَعَلِّقَةُ بِفَخِذِهِ (بِعَمَلِهِ، وَذَلِكَ) أَيْ: إِنْطَاقُ أَعْضَائِهِ أَوْ بَعْثُ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أَشَارَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَخَتْمِ الْفَمِ وَنُطْقِ الْفَخِذِ وَغَيْرِهِ، (لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ) ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لِيُعْذِرَ عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ مِنَ الْإِعْذَارِ، وَالْمَعْنَى: لِيُزِيلَ اللَّهُ عُذْرَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ بِكَثْرَةِ ذُنُوبِهِ وَشَهَادَةِ أَعْضَائِهِ عَلَيْهِ ; بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ يَتَمَسَّكُ بِهِ، وَقِيلَ لِيَصِيرَ ذَا عُذْرٍ فِي تَعْذِيبٍ مِنْ قِبَلِ نَفْسِ الْعَبْدِ، (وَذَلِكَ) أَيِ: الْعَبْدُ الثَّالِثُ (الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ الَّذِي سَخِطَ) : بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ: غَضِبَ (اللَّهُ عَلَيْهِ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
(وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ) : صَوَابُهُ عَلَى مَا سَبَقَ: " «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» "، (فِي بَابِ التَّوَكُّلِ، بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ) . فَكَانَ الْبَغَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ الْحَدِيثَ مُكَرَّرًا بِإِسْنَادَيْنِ: أَحَدُهُمَا هُنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْآخَرُ هُنَاكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَحَذَفَ صَاحِبُ الْمِشْكَاةِ مَا هُنَا، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ ذُكِرَ سَابِقًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ، فَانْدَفَعَ مَا يُتَوَهَّمُ مِنَ التَّدَافُعِ بَيْنَ قَوْلِهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلِهِ بِرَاوِيَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute