قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ( «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفًا لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَذَابَ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، وَثَلَاثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي» ) . كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ مُسْتَحْسَنٌ جِدًّا، إِلَّا أَنَّ قَيْدَ قَوْلِهِ بِشَفَاعَتِكَ لَا دَلَالَةَ لِلْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ شَفَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَإِنْ كَانُوا دَاخِلِينَ فِي الشَّفَاعَةِ الْعَامَّةِ، هَذَا وَفِي قَوْلِهِ: زِدْنَا، عَلَى أَنَّ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدْخَلًا وَمَجَالًا فِي الْأُمُورِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَفِي التَّصَرُّفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، بِحَسَبِ مَا أَوْلَاهُ مَوْلَاهُ مِنَ الرُّتْبَةِ الْجَلِيَّةِ وَالْمَزِيَّةِ الْعَلِيَّةِ. (قَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (وَهَكَذَا) أَيْ: وَفَعَلَ هَكَذَا، وَتَفْسِيرُ (فَحَثَا بِكَفَّيْهِ وَجَمَعَهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: زِدْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَهَكَذَا) أَيْ: فَحَثَا بِكَفَّيْهِ وَجَمَعَهُمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا حِكَايَةٌ لِفِعْلِهِ سُبْحَانَهُ ; وَلِذَا قَالَ الشُّرَّاحُ: إِنَّمَا ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْحَثَيَاتِ ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُعْطِي الْكَرِيمِ إِذَا اسْتُزِيدَ أَنْ يَحْثِيَ بِكَفَّيْهِ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ، وَرُبَّمَا نَاوَلَهُ مِلْءَ كَفٍّ، فَالْحَثْيُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَثْرَةِ، وَإِلَّا فَلَا كَفَّ وَلَا حَثْيَ. (فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنَا يَا أَبَا بَكْرٍ) ! أَيِ: اتْرُكْنَا عَلَى مَا بَيَّنَ لَنَا الْحَالَ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ ; لِنَكُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِدَالِ، (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَلَيْكَ) أَيْ: بَأْسٌ وَضَرَرٌ (أَنْ يُدْخِلَنَا اللَّهُ كُلَّنَا) أَيْ: جَمِيعَنَا، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ فِي يُدْخِلَنَا (الْجَنَّةَ؟ قَالَ عُمَرُ: إِنَّ اللَّهَ) أَيْ: بَلْ أَقُولُ زِيَادَةً عَلَى مَا تَقُولُ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَقَدُ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ إِنْ شَاءَ أَنْ يُدْخِلَ خَلْقَهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَمُطِيعِهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، (بِكَفٍّ وَاحِدٍ) أَيْ: بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ (فَعَلَ) ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: ٩] ، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: ٢٥٣] قِيلَ: أَرَادَ بِكَفٍّ وَاحِدٍ عَطَاءَهُ وَفَضْلَهُ، أَيْ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ الْخَلْقَ كُلَّهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ فَعَلَ ; فَإِنَّهَا أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، هَذَا وَالْكَفُّ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ الْيَدُ أَوْ إِلَى الْكُوعِ، وَجَعَلَهَا صَاحِبُ الْمُغْرِبِ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ السَّمَاعِيَّةِ، وَعَدَّهَا ابْنُ الْحَاجِبِ أَيْضًا فِي رِسَالَتِهِ مِمَّا يَجِبُ تَأْنِيثُهُ، فَقَوْلُهُ: بِكَفٍّ وَاحِدٍ، مُئَوَّلٌ بِعَطَاءٍ وَاحِدٍ، أَوْ بِمَقْبُوضٍ وَاحِدٍ. (فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ عُمَرُ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنَّمَا لَمْ يُجِبْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ بِمِثْلِ كَلَامِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - لِأَنَّهُ وَجَدَ لِلْبِشَارَاتِ مَدْخَلًا عَظِيمًا فِي تَوَجُّهِ النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُنْجِي خَلْقَهُ مِنْ عَذَابِهِ بِشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، الْفَوْجَ بَعْدَ الْفَوْجِ، وَالْقَبِيلَ بَعْدَ الْقَبِيلِ، ثُمَّ يُخْلِصُ مَنْ قَصُرَتْ عَنْهُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ سَلِمَ لَهُمُ الْإِيمَانُ، وَلَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ، عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ هُوَ مِنْ بَابِ التَّضَرُّعِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ مِنْ بَابِ التَّفْوِيضِ وَالتَّسْلِيمِ. أَقُولُ: التَّسْلِيمُ أَسْلَمُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ (الْمَصَابِيحِ) (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ: بِإِسْنَادِهِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي (مُسْنَدِهِ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute