للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

(وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ) أَيْ تَعَلَّقَ بِكَ الْأَمْرُ وَالْحَالُ أَنَّكَ فِي صُلْبِ آدَمَ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَضِيَّةِ الْمِيثَاقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: ١٧٢] " أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّوْحِيدُ وَالْعِبَادَةُ عَلَى وَجْهِ التَّفْرِيدِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج: ٢٦] وَهُوَ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: أَهْوَنَ (فَأَبَيْتَ) أَيْ كُلَّ شَيْءٍ (إِلَّا أَنْ تُشْرِكَ بِي) أَيْ فَلَا جَرَمَ، لَا أَقْبَلُ مِنْكَ، وَلَوِ افْتَدَيْتَ بِجَمِيعِ مَا فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [المائدة: ٣٦] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ: لَوْ أَنَّ لَكَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أَيْ لَوْ ثَبَتَ؛ لَأَنَّ " لَوْ " يَقْتَضِي الْفِعْلَ الْمَاضِيَ، وَإِذَا وَقَعَتْ " أَنَّ " الْمَفْتُوحَةَ بَعْدَ " لَوْ " كَانَ حَذْفُ الْفِعْلِ وَاجِبًا؛ لَأَنَّ مَا فِي " أَنَّ " مِنْ مَعْنَى التَّحْقِيقِ وَالثَّبَاتِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَقَوْلُهُ: أَرَدْتُ مِنْكَ، ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى: أَرَدْتُ فِيكَ التَّوْحِيدَ، فَخَالَفْتَ مُرَادِي وَأَتَيْتَ بِالشِّرْكِ. وَقَالَ الْمُظْهِرُ: الْإِرَادَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْإِرَادَةِ أَنَّ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ لَا مَحَالَةَ كَائِنٌ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَقَدْ يَكُونُ مُخَالِفًا لِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ. قُلْتُ: وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْلَانِ تَوَجَّهَ إِلَى عَامَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، وَتَعَلَّقَتْ مَشِيئَةُ الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ وَإِرَادَةُ الْكُفْرِ بِبَعْضِهِمْ؛ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: ٣٥] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: ٢٥٣] ، وَقَالَ: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: ٣١] ، وَقَالَ: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: ٣٠] .

قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْأَظْهَرُ أَنْ تُحْمَلَ الْإِرَادَةُ هُنَا عَلَى أَخْذِ الْمِيثَاقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: ١٧٢] الْآيَةَ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ، فَقَوْلُهُ: أَبَيْتَ إِلَّا أَنَّكَ تُشْرِكُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: ١٧٣] وَيُحْمَلُ الْآبَاءُ هُنَا عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ. وَقَوْلُهُ: (أَلَّا تُشْرِكْ) اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ، وَإِنَّمَا حُذِفَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ مُوجَبٌ لِأَنَّ فِي الْآبَاءِ مَعْنَى الِامْتِنَاعِ، فَيَكُونُ نَفْيًا أَيْ مَا اخْتَرْتَ إِلَّا الشِّرْكَ، انْتَهَى. وَهُوَ كَلَامٌ حَسَنٌ إِلَّا أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِرَادَةِ وَإِرَادَةَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ يُدْفَعُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِيرَادِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

<<  <  ج: ص:  >  >>